«الأمل والعلم داخل خيمة».. مُعلمة فلسطينية تُحارب الخوف في قلوب أطفال غزة لأكثر من عام
أسماء لـ«جسور بوست»: «اللي بنحاول نعمله إسعاف القلب والعقل لتخفيف المصاب»
مع دقات الثالثة عصراً تتحضر أسماء مصطفى لمهمتها اليومية، تبتسم لاستقبال زائريها الصغار، تُمرر عينيها عليهم، منذ شهرين يَفِدُ إليها 100 طفل حفظت عددَهم وملامحَهم كما أسماءهم، تتفقد الغائب والحاضر، تماماً كما كانت تفعل مع طالبتها في طابور الصباح بمدرسة حليمة السعدية في شمال غزة.
التفاصيل ذاتها كمعلمة تنساب من أسماء داخل خيمتها، التي لم تكتفِ بها مكاناً للنزوح، بل صارت مدرسة خاصة بها، أو "إسعافاً" كما تصف، تتعافى فيها مما سلبته الحرب منها ومن أطفال غزة.
تجاوز العدوان الإسرائيلي على غزة 400 يوم، دمر خلالها 80% من مدارس القطاع المحاصر؛ ما لا يقل عن 53 مدرسة بشكل كلي و167 مدرسة لحقت بها أضرار شديدة، وما نجا من القصف حتى الآن تحول إلى ملاجئ إيواء للنازحين حسب ما جاء في تقرير للأمم المتحدة.
معلمة بلقب "مسعف"
كان في غزة 813 مدرسة و22 ألف معلم يعملون بقطاع التعليم، من بينهم أسماء، اليوم داخل خيمة من القماش والبلاستيك، استقرت بها قبل شهرين في منطقة النصيرات بوسط غزة، خصصت المعلمة ركناً لاستقبال أطفال الخيم المجاورة أو ما بات يُعرف بالمخيم، بإمكانات بسيطة وظروف صعبة وفرّت سبورة صغيرة وبعض الأدوات للتعليم من دفاتر وألوان وألعاب وقصص.
تحت أزيز طائرات الاستطلاع، وأجواء صعبة من الدمار وأصوات القصف وأخبار الشهداء، تقضي أسماء ساعتين مع أطفال من مختلفي الأعمار، لا شرط ولا قيد هنا "ماعنديش الطفل يجيي أقوله اليوم مش درسك، لا، بستوعب الجميع، رغبة الطفل في الحضور هي اللي بتحكم مش أنا" تقول المعلمة لـ"جسور بوست".
لغة عربية ولغة إنجليزية، رياضيات، مهارات قراءة وكتابة وحكايات تربوية... ما يتلقاه الصغار في خيمة "ميس أسماء" كما يناديها الطلاب. تحتضن المعلمة الأطفال مع ستة أشقاء لها هم أيضاً معلمون، يُقسمون الوقت بين الدروس والأنشطة المختلفة في مقدمتها "أنشطة التفريغ الانفعالي" كما تقول لتحسين نفسيتهم لا سيما أن كثيراً منهم تعرض لفقد الأحبة.
35 ألف طفلاً يعيشون دون والديهم أو أحدهما وفق آخر بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ 19 نوفمبر الجاري.
تقف أسماء، توزع محبتها على الأطفال، تبتسم لهذا، تساعد ذلك على تذكر الحروف والأرقام التي نسيها بفعل الحرب، تستمع لحكاية طفلة فقدت والدتها وتأنس بقربها، توقن المعلمة أن دورها في هذه الحرب تجاوز التدريس "اللي بنحاول نعمله إسعاف قلب الطفل وعقله، إسعاف من شأنه يخفف الإصابة بهاد المصاب".
قبل الحرب قدرت اليونيسف أن أكثر من 500 ألف طفل بحاجة إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي في غزة، فيما الآن تشير تقديرات المنظمة التابعة للأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون طفل بحاجة إلى ذلك.
يستمد الصغار من أسماء ورفاقها المعلمين وقتاً يتناسون فيه ما ينتظرهم خارج الخيمة، فيما لا يعلمون أن المعلمة هي الأخرى تستند إليهم "كلنا هنا مصابون؛ المعلم والطالب على حد سواء، ولكن قدر المستطاع التماسك فريضة".
مصاب جلل
تتذكر المعلمة كيف استقبلت خبر قصف مدرستها حليمة السعدية في سبتمبر الماضي، كانت بمثابة منزلها الثاني، تكالبت التفاصيل عليها؛ طابور الصباح، طالباتها وزميلاتها اللائي أصبحن بين شهيدات ومصابات ومهاجرات خارج البلاد، ملعب كرة السلة الذي شهد الضحكات في أوقات الفراغ، مكتبها بين المعلمات، حديقة المدرسة "اللي تعتبر جنة الله في الأرض. في وسطها نافورة ما أحلاها ولا مدرسة في قطاع غزة فيها نافورة زي مدرستنا ولا جمال زيها". الذكرى موجعة والمصاب جلل لكن لا سبيل عن المضي.
ألقاب عدة تحملها أسماء، منها "المعلم العالمي" لعام 2020، "معلمة فلسطين" لعام 2022، "معلمة فلسطين المبدعة 2022"، وغيرها من إنجازات توثِّق رحلة 16 عاماً في مضمار التعليم بغزة. أبداً ما تخيلت أن يكون عامها السابع عشر كمعلمة داخل خيمة، ما سمعت عن ذلك حتى وقت النكبة عام 1948 وهي ابنة قرية سمسم المهجرة من قضاء غزة "أجدادي عاشوا النكبة، حكوا لنا قديش كانت صعبة، لكن ما كانت المدارس بالخيام، جدتي الله يرحمها كانت في مدرسة داخل قرية نجد ولما اتهجروا تم إنشاء مدارس الأونروا".
التعليم حق أصيل كفلته المواثيق الدولية ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموجب المادة 26، لكن في غزة أكثر من 600 ألف طالب بالمدارس حرمهم الاحتلال هذا الحق.
مغالبة الذكريات
ليس سهلاً أن تقف أسماء أمام الأطفال لتعليمهم داخل الخيمة، الأجواء لا تشبه الدراسة، فيما تجاهد المعلمة نفسها لمغالبة ذكريات ما قبل الحرب، واليوم الذي رأت فيه السماء كأنما أُطبقت فوق الرؤوس.
كانت الساعة السادسة والنصف صباح يوم السبت 7 أكتوبر 2023، تقف "ميس أسماء" أمام المرآة تضع اللمسات الأخيرة لمظهرها لتلحق بعملها، فإذا بأصوات قوية؛ قصف وقذائف، الأخبار غامضة، ظنت أسماء أن شمال غزة وحده يشهد ذلك، فإذا بكل القطاع، وها هُنَّ المعلمات على مجموعة الواتساب يتبادلن الارتباك، حتى جاء الخبر اليقين من مديرة مدرسة حليمة السعدية بأن يلزم الجميع منزله، قد أعلنت الوزارة تعليق الدراسة حتى إشعار آخر.
ما زال وقع الخبر وما جرى بعده حاضراً لليوم، تختنق الدموع في حلق أسماء بينما تستعيده "كان يمثل لي صاعقة، بعد كده بدأت الحرب، بقينا نفهم من الأخبار وعرفنا أن هذه الحرب ستأكل الأخضر واليابس"، وقد كان.
754 معلماً وموظفاً تربوياً في التعليم، و12700 طالب وطالبة قتلهم الاحتلال الإسرائيلي منذ أن شنّ حرب الإبادة الجماعية على القطاع المحاصر وفقاً لبيان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ 19 نوفمبر الجاري، فيما قال باحثون أمميون في بيان صدر إبريل الماضي إنه "قد يكون من المعقول التساؤل عمّا إذا كان هناك جهد متعمد لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يعرف باسم الإبادة التعليمية".
عاشت المعلمة كل الحروب والتصعيدات في غزة، لكنها لم تغادر منزلها يوماً، إلا أنها في 10 أكتوبر 2023 فعلت "هداك اليوم طلعت من البيت ما رجعتش".
8 مرات نزحت فيها المعلمة، طافت فيها غزة من شمالها لجنوبها، وها هي الآن بالمحافظة الوسطى، مع كل نزوح ينغرس الألم في صميم فؤادها، إذ لم تنفصل عن أماكنها التعليمية، تتذكر أول ليلة انقضت عليها تحت سقف غير منزلها، كانت مدرسة حفصة الأساسية للبنات، مدرسة بنتيها سارة وسندس "أصعب ليلة في حياتي، قبل كام يوم جيت على المدرسة أوصل بناتي، وهي مدرسة رائعة صارت مقر نزوح للأسر الفلسطينية اللي ما لاقية مكان".
افترشت المعلمة أرض ساحة المدرسة، سبع ساعات من الثانية حتى التاسعة صباحاً كأنها دهر، بعدما كانت تترك طفلتيها بأمان هنا وترحل إلى فصول مدرستها لتبدع في تعليم اللغة الإنجليزية لطالباتها، وتخبرهن بأن يتواصلن مع العالم، اليوم لم تعد هناك لغة تصف ما تمر به الأم وبناتها، منذ تلك الليلة وتضع طفلتيها واحدة على الزند الأيمن والأخرى نحو الأيسر، تنامان كأنهما شخص واحد بينما تدعو "يا رب إذا إلنا عمر نعيش سوا وإذا كتبت لنا الشهادة نكون سوا".
لم تحمل معلمة اللغة الإنجليزية من منزلها سوى حقيبة ملابس وجهاز كمبيوتر محمول "لابتوب" يحفظ مسيرتها التربوية والتعليمية، قبضت عليه كأيدي بناتها وركضت تحت القصف وبين أشلاء وجثث الفلسطينيين ممن استهدفهم جيش الاحتلال، أوقات مرّت بلا التفات وأنفاس تكاد من سرعتها تقف القلوب... حتى اليوم كلما تذكرت نزوحها القسري من شمال غزة ووقوفها لتعليم الأطفال حدَّثت نفسها "كيف أنا عايشة للحين؟!".
التعليم والنزوح
تمر أيام نوفمبر الجاري، بات للمعلمة ذكريات بعمر الحرب التي دخلت عامها الثاني، أكثرها عصيب لكن فيها من اللطف. كان يوم جمعة (4 نوفمبر 2023) حينما قررت المعلمة المبادرة لتعليم الأطفال.
داخل مدرسة الفخاري شرق رفح، (النزوح الرابع للمعلمة)، مرة أخرى التفاصيل تكوي الجراح، تئن أسماء بينما تفترش أرض مكتبة المدرسة "أنا كنت أمينة المكتبة في مدرستي، اليوم أنا نازحة مشردة في مكتبة مدرسية"، لكن هذه المرة تمالكت نفسها ونفضت عنها كل شعور يائس "حاولت أن أحافظ على نفسيتي بالتعامل مع الأطفال وممارسة عملي ومهنتي التي أحب". أمسكت القصص وأخذت تصنفها لتناسب فئات عمرية، لتجمع حولها الصغار، ومن وقتها كلما نزحت لمكان فعلت الأمر ذاته، وبعدها يصير اللقاء يومياً.
اللقاء الأول لأسماء كمعملة لأطفال نازحين مثلها، عايشت مشاعر متناقضة "كان عندي أمل أن بكرة يجيي واحنا بخير وتوقف الحرب وفي نفس الوقت عندي خوف كبير أن الحياة تمشي بهذا الشكل".
استمرت المعاناة وتجاوزت العام، ومعها الإحساس المتناقض ذاته لدى المعلمة في كل مرة تتأمل فيها الصغار، لكن دائماً واجب من الوفاء يهزها لبذل الجهد لإعادة الطفل الفلسطيني لمستواه التعليمي، ولمهاراته في القراءة والكتابة التي نسيها بفعل الحرب، هي بين كفتين كما تصف "أنا خايفة لكن في نفس الوقت كلي أمل".
ألفا طفل التقتهم أسماء وتلقوا التعليم على يديها حتى الآن "كل المهارات اللي بعلمها في مكان بشكل متساوٍ. جميعهم نفس التعليم نفس التدريبات نفس الطبطبة والتفريغ الانفعالي" تقولها المعلمة باعتزاز، هذه اللحظة وحدها كفيلة بتبدل حالها.
مع كل يوم تنجو فيه أسماء يزيد يقينها بأن ثمة إنجازاً عليها إتمامه، يتجاوز حتى تعليم الحروف والأرقام "بحاول أجعل الأطفال قادرين على خلق علاقات اجتماعية جديدة في أماكن نزوحهم.. الأطفال إذا عملوا صداقات جديدة هذا الأمر سينعكس إيجابياً على مخيم النزوح"، تؤمن المعلمة أن حدثاً بسيطاً كلقاء الأمهات وحديثهن عن تعليم أبنائهن في خيمتها التعليمية من شأنه أن يعزز التكاتف بين سكان المخيم وتخفيف المعاناة عن بعضهم بعضاً.
تتعلم لغة الإشارة لأجل طفل
تخطت خيمة أسماء كونها بمثابة مدرسة لأطفال مخيمها، أصبحت مكاناً لتعليمها هي أيضاً؛ في النزوح الخامس، غرب رفح هذه المرة، التقت نائل، طفلاً من الصم والبكم كان جاراً لها، مع الأيام تعلمت منه ومن جاراتها بعض الإشارات، لم يتجاوز الأمر حينها حد التواصل إلى أن التقت مع محمد في مخيمها الحالي بالنصيرات.
فتى بالخامسة عشرة من العمر، أحضرته والدته فقط ليرسم ويلوّن، استقبلته المعلمة بما تعلمته سابقاً، فرح محمد كأنه وجد عزيزاً بعد غياب، أخبرها بالإشارة عن طموحه في التعليم ليصير شرطياً، أوقعت كلماته المسؤولية في نفس المعلمة "قلت حرام الطفل يروح هيك ما حدا يفهم عليه ولا يفهم على الأطفال من حواليه، كلهم بيطلعوا فيه لأنه مفيش تواصل، بالبسمة فقط كان التواصل".
أدركت أسماء معاناة خفية في خِضَم ما يجري، حياة الأطفال من الصم والبكم قبل الحرب كانت داخل مدارس خاصة بهم، لكن دون سابق إنذار أُجبروا على الاندماج والاحتكاك بالمجتمع بشكل واسع، لذا قررت المعلمة إتقان لغة الإشارة ليس فقط للتواصل مع محمد، بل لجعل رفاقه في المخيم يعرفون أدنى حدود التعامل معه.
تواصلت أسماء مع معلم للغة الإشارة، حضرت 8 لقاءات، عادت المعلمة للمذاكرة والاجتهاد، كلما تعلمت جديداً تواصلت مع الصبي لترى وقع تقدمها عليه "طيران الولد فرحان صرت أعرف أتحدث معه وفرحت على حالي وهو صار يروح نفسيته مبسوط أكتر".
اليوم الأطفال في خيمة "ميس أسماء" يعرفون أن هناك لغة لرفيقهم للتواصل معه، علمتهم المعلمة أيام الأسبوع، والألوان، وإشارة الأماكن في غزة... درس جديد ليس للصغار فقط إنما للمعلمة قبلهم "كل ما قدرت أتعلم شيء يفيد الآخرين بيكون في رصيدي مع ربنا وإنجازاتي في الحياة إن كنا من الناجين".
عالم أسماء
من لا شيء تصنع أسماء عالماً خاصاً، تُوقف صوت الموت والعذاب لساعتين مع طلابها من المخيم الذين يتوقون اليوم إلى العودة للدراسة بعدما كانت المدرسة والواجبات المدرسية أكبر همومهم قبل أن يروا ما لا يحتمله الكبار، فيما تواصل المعلمة حضور المؤتمرات التعليمية داخل فلسطين ودولياً رغم صعوبة الاتصالات، عزمت أسماء على أن تواصل كتابة حكايتها كما تريد وليس كما يرغب الاحتلال.
تمسك أسماء ذاك القلم الذي أهداها إياه طفلتان شقيقتان عرفت أنهما تأتيان من خارج مخيمها رغم صعوبة الانتقال، وكم تندُر هذه الهدية في زمن الحرب على بساطتها، تبتسم بينما تتأمل معاني تعز في أوقات الشدائد ولا سيما في حرب الإبادة الجارية "مع هدول الأطفال أنا بكبر معاهم وفيهم وحرفياً ممكن أطلع من جو الحرب وبحس أني إنسانة كل ما تقدمت في العطاء لمن حولي".