الأدمغة تعفنت... ماذا بعد؟
الأدمغة تعفنت... ماذا بعد؟
على مدى أكثر من عقدين، أُجريت الكثير من الدراسات العلمية الموثوقة، التي اتفقت بوضوحٍ على أن عدد الساعات التي يمضيها الإنسان الفرد في تصفح وسائط «التواصل الاجتماعي»، وشبكة «الإنترنت» بشكل عام، يزداد باطراد، وأنه لا يقل عن 6 ساعات يومياً، وفي بعض الأحيان، فإن هذا الوقت يزيد عن ذلك.
ولقد كان الحديث عن أضرار التعرض لتلك الوسائط، وشبكة «الإنترنت» عموماً، يتصاعد، رغم الإقرار بأن هذا التعرّض انطوى أيضاً على مزايا فريدة، وبات جزءاً حيوياً من الحياة بشتى مناحيها، وأداة مُهمة للتواصل والتعلم والترفيه وإنجاز الأعمال.
وفي عام 2006، طرأ تغير تقني جديد على عالم وسائط «التواصل الاجتماعي»، عندما ابتكر المبرمج الشهير آزا راسكين خاصية «التصفح اللانهائي» (Infinite Scrolling)، وهي خاصية سُميت لاحقاً «بارود الإنترنت»، لأنها ببساطة أشعلت حالة التصفح لدى مليارات من مستخدمي الشبكة، وجعلت من الصعب على قطاعات منهم مغادرتها، لأوقات طويلة.
وعلى ما يبدو، فإن راسكين أدرك، في وقتٍ ما لاحقاً، أن ما فعله لم يكن أمراً صائباً، وأنه قاد مليارات من مستخدمي «الإنترنت» إلى الوقوع في براثن حالة مرضية، رغم أن نيّاته، كما أكد مراراً، كانت طيبة؛ إذ أراد أن يجعل عملية التصفح سهلةً وبلا عوائق، لكن الإفراط في هذه السهولة قاد كثيرين إلى الإدمان.
والإدمان هو المصطلح الذي استخدمته منظمات صحية متخصصة عديدة، حينما سعت إلى توصيف الحالة التي يقع فيها بعض مستخدمي «الإنترنت»، عندما يُفرطون في ذلك الاستخدام.
ولهذا السبب احتاج راسكين إلى أن يقدم اعتذاراً عن اختراعه المؤثر، بعدما أدرك أنه ربما ساهم في تسهيل وقوع مليارات من مستخدمي الشبكة فريسةً لهذا المرض الجديد، إذ رصدت منظمات صحية معنية أن «التصفح اللانهائي» أسهم في تعزيز الإصابة بالإدمان بنسبة تقارب الـ60 في المائة لدى المستخدمين.
أما «الجمعية الأميركية للطب النفسي» فقد اعتمدت «الإدمان على الإنترنت» ضمن عناصر الإدمان الأخرى، وعرفته بوصفه «اضطراباً يُظهر حاجة سيكولوجية قسرية نتيجة عدم الإشباع من استخدام الإنترنت»، وأوضحت أن المُصاب بهذا الاضطراب يعاني أعراضاً عدة تتشابه، في خصائصها وعلاماتها الإكلينيكية وآثارها النفسية، مع حالات الإدمان التي تسببها المواد الأخرى المُتعارف عليها في هذا الإطار؛ مثل المُخدرات والكحول.
وفي الأسبوع الماضي، كنّا على موعد مع جرس إنذار جديد، وقد أتى هذه المرة من دار نشر جامعة أوكسفورد، المسؤولة عن نشر قاموس «أوكسفورد» للغة الإنجليزية، إذ أعلنت مصطلح «تعفّن الدماغ» (Brain Rot) ككلمة عام 2024، بعدما حصل هذا المصطلح على 37 ألف صوت من مجتمع الجامعة على مستوى العالم.
تقول دار نشر «أوكسفورد» إن معدل استخدام مصطلح «تعفّن الدماغ» زاد في 2024 بنسبة 230 في المائة عن العام السابق، وهو الأمر الذي دعاها إلى اختياره، في خطوة تلقي الضوء على المخاطر المتصاعدة للإفراط في استخدام المواد التافهة والسطحية على شبكة «الإنترنت»، خصوصاً بين الفئات الأصغر سناً.
إن «تعفّن الدماغ» إحدى ظواهر العصر الرقمي الرئيسة بامتياز، وهي ظاهرة تؤدي إلى تدهور القدرات العقلية نتيجة للإفراط في التعرّض للمحتوى الرقمي السطحي وغير المُحفز؛ مثل مقاطع الفيديو القصيرة، التي يتصفحها الناس، باستخدام خاصية «التصفح اللانهائي»، على منصات مثل «تيك توك» و«إكس» و«إنستغرام» وغيرها.
لقد بات واضحاً أن النظام الاتصالي العالمي الراهن رفد الإنسانية بإمكانات وقدرات فائقة سهلت الحياة في مناحٍ عديدة، ووفرت أسباباً للتقدم وإنجاز الأعمال والتواصل والألفة والتسرية، لكن مع ذلك، فإن ديناميات هذا النظام وبراغماتية الفاعلين فيه، تحمل في طياتها مخاطر أكبر من القدرة على تحمل تكاليفها الباهظة.
لم يكن إعلان «تعفّن الدماغ» مصطلحاً لعام 2024 من قبل «أوكسفورد» كشفاً جديداً، كما لم يحمل مفاجأة؛ إذ بدا أن ثمة إقراراً يتصاعد حول العالم بأن ترك الساحة لآليات التلقي السائدة، من دون تقويم أو ضبط، سيؤدي إلى تلك النتيجة بالضرورة.
والحل يكمن في ضرورة إطلاق مبادرة عالمية، تقوم عليها منظمات دولية مُختصة، بمساعدة الحكومات والمُشرعين، من أجل وضع ضوابط للتعرض، خصوصاً بين الفئات الأصغر سناً، وإلزام الشركات الكبرى القائمة على تشغيل الوسائط الرائجة بفرض معايير استخدام، لضبط حصص التلقي للمستخدمين، ووضع حدود لها، باستخدام الوسائل التقنية.
وسيكون تعزيز برامج «التربية الإعلامية»، وتضمينها في مناهج التعليم، ضرورة حيوية لتقويم أساليب التعرض للوسائط، ومحاولة إنقاذ ما تبقى من الأدمغة التي طالها «العفن الرقمي».
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط