الموسيقى في مواجهة آلة الحرب.. كيف يحافظ النازحون السودانيون على إرثهم الفني؟
الموسيقى في مواجهة آلة الحرب.. كيف يحافظ النازحون السودانيون على إرثهم الفني؟
"كان الأمر أشبه بكابوس لا ينتهي، أحلامي هناك في السودان، تاريخي وطفولتي وشبابي، كل ذلك انتهى في شهر أبريل الماضي، وقع الاقتتال في السودان وتحولت المدن التي قضيت فيها طفولتي إلى ساحة اقتتال، اضطررت إلى النزوح مثل الآلاف من السودانيين"، هكذا قال الملحن والعازف السوداني، عباس أحمد عباس.
في الخامس من أبريل 2023، اندلعت حرب بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحتَ قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على خلفية الأحداث التي وقعت في السودان اضطر الملايين من السودانيين إلي النزوح من ويلات الحرب.
وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن الحرب السودانية خلفت واحدة من أكبر أزمات النزوح العالمية، حيث اضطر أكثر من مليوني سوداني للنزوح عبر الحدود و8 ملايين سوداني للنزوح الداخلي في السودان.
"عباس أحمد عباس" واحد من هؤلاء الذين اضطروا للهروب من بلدهم الأصلي، يقول عن ذلك: "رحلة محفوفة بالمخاطر، استمرت قرابة الـ3 أيام، رأيت فيها كل صنوف الخوف والخطر، في أعقاب اندلاع الحرب في أبريل، كنت في مدينتي "مدني" حيث تعيش عائلتي، ولما وصل النزاع المسلح إلى أعتاب المدينة قررنا أن نهرب للنجاة بحياتنا.
لم يكن الطريق ممهدا بالورود، خلال رحلة النزوح التي استمرت 3 أيام جال في خاطري العديد من السيناريوهات الخاصة بمستقبلي، وكذلك استشعرت خوفا داخل على الإرث الموسيقي السوداني، هل ستبقى الحرب على شيء في هذا البلد، نعم أعرف أننا سنعود يوما إلى وطننا لكن ماذا سيتبقى من الوطن عندما يحين وقت العودة؟
خسائر جراء الحرب الأهلية
الأرقام المعبرة عن الخسائر التي تكبدتها السودان جراء الحرب التي شارفت على 20 شهرًا متناثرة هنا وهناك، لكن وفقا بيان المكتب الأممي، بلغ عدد النازحين في 9 ولايات أكثر من 11 مليون نازح ينتشرون في 67 محلية، فيما فر نحو 8.1 مليون شخص من منازلهم في السودان، ويشمل ذلك قرابة الـ6.3 مليون داخل السودان و1.8 مليون فروا إلى خارج البلاد.
وذكر برنامج الأغذية العالمي أن قرابة الـ18 مليون شخص في أنحاء السودان يواجهون حاليا الجوع الحاد، فيما اضطرت العائلات إلى شرب مياه المستنقعات، كما قدر حجم الدمار والتخريب بالقطاع الصحي في السودان بـ11 مليار دولار بسبب الحرب.
وأشارت تقارير إلى أن 75 % من المستشفيات البالغة 702 مستشفى منها 540 تابعة للصحة تعمل جزئيا.
ووفقا لدراسة نشرها المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، بلغت تكلفة الحرب أكثر من 100 مليار دولار، إذ توقف 70% من النشاط الاقتصادي في السودان. وتُقدر تكلفة المعارك في السودان بنحو نصف مليار دولار يوميًا.
الوصول إلى مصر
في مايو عام 2023 استقرت الحال بـ“عباس" في مصر، وبعد أيام لحقته عائلته، يرى "عباس" أن لكل منا سلاحا يستطيع أن يقاتل من خلاله وسلاحه الوحيد هو الفن، فكان ما يشغل باله خلال فترة مكوثه في مصر كيف يحافظ على الإرث الموسيقي السوداني.
يقول "عباس": "عندما اجتمعت مع موسيقيين سودانيين كان الأمر الذي يشغل بالنا كيف ننجو بموسيقانا وتراثنا من ويلات الحرب؟ فكان الحل الأمثل البداية في حفظ هذا التراث من خلال فرقة موسيقية تعيد إنتاج الموسيقى السودانية وأن يحافظوا على الهوية الموسيقية السودانية، استقر الحضور وكان عددهم قرابة الـ14 موسيقياً على تدشين فرقة (نقطة ضوء)".
"نقطة ضوء" باند موسيقي يعمل على إعادة إنتاج الموسيقى السودانية لكبار المغنيين مثل "محمد وردي، ومحمد الأمين" وغيرهما من الموسيقيين السودانيين، حتى كتابة هذه الكلمات يسعى باند "نقطة ضوء" إلى اختيار نوع الموسيقي السوداني الأصيل وكيف يمكن أن يعيد إنتاجه لتكون رابطاً بين الجيل القديم والجيل الحالي، الموسيقى ستكون الجسر الواصل بين الماضي والحاضر.
التنوع الموسيقي السوداني
تتميز الموسيقى السودانية بتنوعها الغني الذي يعكس تعدد الثقافات في البلاد، ففي الشمال، تبرز آلة الطمبور مع الإيقاعات المركبة وأغاني الدلوكة والدوبيت، الذي يُعد مرحلة مهمة في تاريخ الغناء السوداني. أما الشرق، فيشتهر بغناء الدرفولي لدى قبائل البجا، بجانب الدوبيت والمناحة.
وانتشرت آلة الباسنكوب الشبيهة بالطمبور، في جنوب السودان الذي يحمل الطابع الإفريقي الأصيل بالغناء الجماعي المصحوب بطقوس ورقصات، وأشهرها أغاني قبائل الدينكا والزاندي التي تعشق الموسيقى وتستخدم آلات مثل "البالمبو" و"الكوندي".
في الغرب، تتعدد الأنماط المصحوبة بالرقص الجماعي مثل "الجراري" و"المردوم"، مع آلات مثل النقارة والربابة.. وترتبط الموسيقى في جميع المناطق بالطقوس والمناسبات الاجتماعية، مما يجعلها جزءًا أصيلًا من التراث السوداني.
الموسيقى تنجو من ويلات الحرب
تلتقط "مودة" طرف الحديث من "عباس"، لتروي جانباً من القصة حول تأسيس باند موسيقى يهدف إلى الحفاظ على التراث الموسيقي السوداني من تبعات الحرب التي أكلت الأخضر واليابس.
تقول مودة في حديثها لـ"جسور بوست": "لظروف الحرب والنزوح الإجباري والدمار الذي عم بلدنا خشينا أن يخرج جيل جديد من السودانيين لا يعرف شيئا عن الموسيقى السودانية، الحرب المستعرة في السودان لا أحد يعرف متى سوف تنتهي، لذلك كان (نقطة ضوء) ضروريا لأن يكون حارس الموسيقى السودانية في مواجهة الحرب".
وتشير "مودة" في حديثها إلى أن باند "نقطة ضوء" يعكف خلال الفترة الحالية على اختيار نوع الموسيقى والفنانين الذين عبروا عن الشارع السوداني، ليتم العمل على إعادة توزيع أغانيهم وإعادة طرحها من جديد.
يعمل "نقطة ضوء" بجهود ذاتية، يسهم أعضاء الفرقة بالمال والوقت لتحقيق النجاح، تقول "مودة": “نجح الباند في الحصول على استديو لتسجيل الموسيقى بثوبها الجديد، التاريخ الموسيقي السوداني مر بتحولات مختلفة ومتنوعة، وهو ما يحاول باند (نقطة ضوء) تحقيقه من خلال استحضار الأغاني التراثية السودانية وإعادة توزيعها ودمجها في أشكال الموسيقى الجديدة".
تختتم "مودة" -أحد مؤسسي باند “نقطة ضوء”- حديثها قائلة: “في القريب العاجل ستكون هناك أفكار تم تنفيذها وانتاجها بأعلى مستوى لطرحها على الجمهور، سيكون هناك دمج لأنواع موسيقى مختلفة في شكل جديد وسيكون هناك دمج لفن الراب في الشكل الجديد، وستكون هناك آلات حديثة العهد بالموسيقى السودانية، هدفنا أن تستمر الموسيقى السودانية وأن يسعى الشباب إلى الاستماع إليها، هذا هو هدف (نقطة ضوء)، فضلا عن سعينا لمواجهة آلة الحرب والدمار بالفنون والموسيقى”.