الأخوة الإنسانية على المحك.. كيف تكشف أزمة اللاجئين عن تناقضات العالم؟
الأخوة الإنسانية على المحك.. كيف تكشف أزمة اللاجئين عن تناقضات العالم؟
في خضم الأزمات العالمية المتزايدة، يُعَدُّ ملف اللاجئين اختبارًا حقيقيًا لقيم الأخوة الإنسانية التي تدّعيها المجتمعات والدول، واللاجئون ليسوا مجرد أرقام أو ظاهرة عابرة، بل هم بشر اقتُلِعوا من أوطانهم بسبب الحروب والصراعات والاضطهاد، ووجدوا أنفسهم في عالم يواجه صعوبة في الوفاء بوعوده تجاههم.
وفقًا لتقرير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2024، ارتفع عدد النازحين قسرًا إلى 122 مليون شخص، مقارنة بـ117.4 مليون في عام 2023، مما يؤكد تسارع الأزمات الإنسانية وتزايد الحاجة إلى استجابات أكثر إنسانية وعدلاً، الدول المضيفة تتفاوت في تعاملها مع هذه الأعداد الهائلة، فبينما استقبلت بعضها اللاجئين بترحاب، فرضت أخرى قيودًا قاسية حالت دون منحهم أبسط حقوقهم.
ويصادف الرابع من فبراير، اليوم الدولي للأخوة الإنسانية، وهو مناسبة أقرتها الأمم المتحدة عام 2020 لتعزيز قيم التضامن والتعايش السلمي، هذا اليوم يستند إلى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وُقِّعت في أبوظبي عام 2019، وهي تدعو إلى التسامح واحترام التنوع الثقافي والديني.
وتكمن المفارقة في أن العالم يحتفل بهذا اليوم بينما الملايين من اللاجئين يواجهون سياسات إقصائية تعكس تناقضًا صارخًا بين الشعارات والممارسات الفعلية ففي أوروبا، ورغم الخطاب الإنساني السائد، اتخذت العديد من الدول سياسات مشددة، مثل الدنمارك التي باتت أول دولة أوروبية تلغي تصاريح إقامة اللاجئين السوريين بذريعة أن دمشق "آمنة"، بينما يُظهِر الواقع الميداني عكس ذلك، وفي المقابل، فتحت دول مثل ألمانيا أبوابها لملايين اللاجئين، لكن سرعان ما بدأت تفرض قيودًا مشددة مع تصاعد الخطاب الشعبوي المناهض للهجرة.
ضغوط اقتصادية وسياسية
في الشرق الأوسط، حيث تستضيف دول مثل تركيا ولبنان والأردن ملايين اللاجئين السوريين، باتت الضغوط الاقتصادية والسياسية تدفع نحو تضييق الخناق على هؤلاء الفارين من ويلات الحرب.
وبدأت تركيا، التي تحتضن أكبر عدد من اللاجئين السوريين -حوالي 3.6 مليون وفقًا لمفوضية اللاجئين- بدأت بترحيل المئات منهم تحت حجج قانونية مختلفة، في حين أن لبنان، حيث يشكل اللاجئون السوريون أكثر من 20% من السكان، يشهد تصاعدًا في المشاعر العدائية تجاههم وسط أزمة اقتصادية خانقة، الأرقام الرسمية تشير إلى أن 90% من اللاجئين السوريين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يعكس حجم المأساة الإنسانية التي يواجهونها يوميًا.
وفي إفريقيا، تعد أوغندا نموذجًا لافتًا في تعاملها مع اللاجئين، حيث تتبنى سياسات اندماجية تمنحهم حرية الحركة والعمل، وهو ما ساهم في تحسين أوضاعهم الاقتصادية مقارنة بنظرائهم في دول أخرى تقرير البنك الدولي لعام 2023 يشير إلى أن اللاجئين في أوغندا يتمتعون بمعدلات تشغيل أعلى نسبيًا من اللاجئين في دول أخرى، مما يعكس أهمية السياسات الشاملة في تحقيق اندماج حقيقي وفعّال في المقابل، تعاني دول إفريقية أخرى، مثل السودان، من انهيار تام في منظومتها لاستقبال اللاجئين بسبب النزاعات الداخلية، حيث وصل عدد النازحين داخليًا إلى أكثر من 7 ملايين شخص، وهو ما يشكل ضغطًا غير مسبوق على الموارد القليلة المتاحة.
قانونيا، تظل اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين حجر الأساس في حماية حقوقهم، لكن التطبيق الفعلي لها يظل ضعيفًا في كثير من الدول، فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، رغم السياسات المعلنة لاستقبال اللاجئين، فإن عام 2023 شهد انخفاضًا في أعداد المقبولين ضمن برامج إعادة التوطين مقارنة بالأعوام السابقة.
وبحسب تقرير منظمة العفو الدولية، فإن السياسات الحدودية المتشددة التي تبنتها واشنطن، مثل تفعيل قانون "المادة 42" الذي يسمح بترحيل المهاجرين لأسباب صحية، أدت إلى انتهاكات جسيمة لحقوق اللاجئين.
من جهة أخرى، تُظهر البيانات أن اللاجئين يسهمون في اقتصاد الدول المستضيفة إذا ما أتيحت لهم الفرصة، حيث أظهرت دراسة حديثة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) أن دمج اللاجئين في سوق العمل يمكن أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 0.5% في بعض الدول، ومع ذلك تبقى معدلات البطالة بينهم مرتفعة بسبب العوائق البيروقراطية والتمييز في سوق العمل ففي فرنسا، رغم القوانين الداعمة لإدماج اللاجئين، إلا أن نسبة توظيفهم لم تتجاوز 29% بعد خمس سنوات من وصولهم، مقارنة بـ 56% بين المواطنين.
تحديات مضاعفة للنساء
وتواجه النساء اللاجئات تحديات مضاعفة، حيث يُقدَّر أن 70% منهن لا يتمكنّ من الحصول على عمل مدفوع الأجر، وفقًا لمنظمة العمل الدولية التمييز الجندري، إضافة إلى القيود الثقافية والقانونية، يجعل وضعهن أكثر هشاشة في بعض الدول، مثل بنغلاديش التي تستضيف حوالي مليون لاجئ من الروهينغا، تعاني النساء من أوضاع مأساوية في المخيمات، حيث يواجهن معدلات مرتفعة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، مع نقص حاد في الخدمات الصحية والتعليمية.
أما الأطفال اللاجئين، فيواجهون حرمانًا كبيرًا من التعليم، حيث تشير تقارير اليونيسف إلى أن 48% من الأطفال اللاجئين في سن الدراسة لا يحصلون على أي نوع من التعليم الرسمي في أوغندا، ورغم سياساتها الداعمة للاجئين، فإن نسبة التحاق الأطفال اللاجئين بالمدارس الثانوية لا تتجاوز 12%، وهو ما يعكس فجوة كبيرة بين السياسات المعلنة والواقع الوضع أكثر سوءًا في أماكن مثل اليمن وسوريا، حيث دمرت الحروب معظم المدارس، ما أدى إلى وجود جيل كامل من الأطفال بلا تعليم.
في ظل هذه التحديات، تبقى المبادرات المجتمعية بارقة أمل. على سبيل المثال، في كندا، هناك برامج مجتمعية تُعرف باسم "الرعاية الخاصة" تتيح للأفراد والكليات والكنائس تبني اللاجئين ودعمهم ماليًا واجتماعيًا، ما ساهم في اندماج آلاف اللاجئين في المجتمع الكندي مثل هذه المبادرات تعكس الدور الذي يمكن أن تلعبه المجتمعات المدنية في تجاوز تقاعس الحكومات.
واللاجئون ليسوا فقط ضحايا، بل هم أفراد قادرون على المساهمة والإبداع إذا ما أتيحت لهم الفرصة، فتجربة السوريين في تركيا، على سبيل المثال، تُظهر أن الكثير منهم تمكنوا من إطلاق مشاريع تجارية ناجحة، حيث تشير بيانات اتحاد الغرف التجارية التركي إلى أن أكثر من 20 ألف شركة أسسها سوريون، ما ساهم في خلق فرص عمل لآلاف الأشخاص.
اللاجئون وازدواجية المعايير
وقالت خبيرة حقوق الإنسان، التونسية نسرين زريقات: اللاجئون هم الامتحان الحقيقي لمدى التزام الإنسانية بمبادئها الأساسية، وفي عالمٍ يتباهى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تزال قضية اللجوء تكشف عن التناقض الصارخ بين الخطاب الحقوقي العالمي والتطبيق الفعلي على أرض الواقع، فرغم توقيع معظم الدول على اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، التي تنص على حمايتهم ومنحهم حقوقهم الأساسية، فإن الكثير من الحكومات تواصل فرض سياسات صارمة تعكس نزعة متزايدة نحو الانغلاق، ما يجعل الحديث عن الأخوة الإنسانية مجرد شعارات.
وتابعت زريقات، في تصريحات لـ"جسور بوست": هذا الخطاب التحريضي، الذي تتبناه بعض الحكومات ووسائل الإعلام، لا يؤدي فقط إلى انتهاك حقوق اللاجئين، بل يكرس أيضًا خطاب الكراهية والتمييز ضد الفئات الأكثر ضعفًا، أحد أبرز الإخفاقات الحقوقية هو التعامل مع اللاجئين كأرقام وإحصائيات بدلًا من النظر إليهم كأفراد لهم كرامة وحقوق في العديد من الدول، يتم احتجاز اللاجئين في مراكز غير إنسانية، تُشبه السجون، بحجة التحقق من أوضاعهم القانونية، ما يتناقض مع مبدأ عدم الإعادة القسرية الذي ينص عليه القانون الدولي.
وشددت على أنه لا يمكن تجاهل التمييز في معاملة اللاجئين بناءً على جنسياتهم أو خلفياتهم ففي حين فتحت بعض الدول أبوابها أمام لاجئين من دول محددة، مثل اللاجئين الأوكرانيين، فإن اللاجئين القادمين من دول إفريقية أو عربية غالبًا ما يواجهون عراقيل قانونية وإدارية تحول دون حصولهم على الحماية اللازمة، هذا التمييز يضرب في صميم مبادئ العدالة والمساواة التي يفترض أن تحكم القوانين الدولية المتعلقة باللاجئين، والتحديات لا تتوقف عند الحدود السياسية فقط، بل تمتد إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية ففي العديد من الدول، يُحرم اللاجئون من الحق في العمل أو الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية، ما يضعهم في حالة من التهميش القسري.
وأشارت زريقات، إلى احتياج اللاجئين إلى المساعدات الطارئة وسياسات مستدامة تضمن إدماجهم في المجتمعات المضيفة، فبعض الدول، مثل كندا وألمانيا، تبنت برامج ناجحة لدمج اللاجئين في سوق العمل والتعليم، مما ساعد على تحويلهم من فئات مستضعفة إلى أفراد منتجين يساهمون في الاقتصاد والمجتمع هذه التجارب تثبت أن التعامل الإنساني مع اللاجئين ليس مجرد واجب أخلاقي، بل يمكن أن يكون أيضًا فرصة لبناء مجتمعات أكثر تنوعًا واستقرارًا.
وأتمت، الأخوة الإنسانية ليست مجرد فكرة مثالية، بل اختبار حقيقي لمدى التزام العالم بحقوق الإنسان. إذا استمرت الحكومات في وضع العراقيل أمام اللاجئين، وواصلت المجتمعات تبرير التمييز ضدهم، فإن المبادئ التي تدعي الإنسانية التمسك بها ستظل فارغة من أي معنى، المطلوب ليس فقط تحسين السياسات، بل تغيير العقليات، والاعتراف بأن اللاجئين ليسوا مجرد ضحايا، بل أناس يستحقون أن يُعاملوا بكرامة وعدالة، وفقًا لأبسط مبادئ حقوق الإنسان.
خلل اجتماعي
من جانبها، وصفت أستاذ علم الاجتماع الإماراتية عائشة العناني، الأمر بقولها إنه "خلل اجتماعي"، مؤكدة على أن اللاجئين هم المرآة التي تعكس القيم الاجتماعية الحقيقية للمجتمعات، فهم ليسوا مجرد أرقام في التقارير الدولية، بل بشر يحملون قصصًا ومعاناة تختبر مدى التزام العالم بمبادئ التعايش والتضامن ومع ذلك، فإن الاستجابة المجتمعية لقضايا اللاجئين غالبًا ما تتأرجح بين الترحيب والرفض، بين الدعم المشروط والخطابات المثالية التي لا تجد طريقها إلى أرض الواقع هذا التناقض يكشف عن خلل اجتماعي عميق في طريقة تعامل المجتمعات مع "الآخر".
وتابعت العناني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، التفاعل الاجتماعي مع اللاجئين يختلف من مجتمع لآخر، ويرتبط بعوامل ثقافية واقتصادية وسياسية، ففي بعض الدول، يصبح اللاجئ جزءًا من النسيج المجتمعي، حيث تتشكل مبادرات تضامنية يقودها أفراد ومؤسسات محلية تسعى إلى إدماجهم في الحياة اليومية أما في مجتمعات أخرى، فيُنظر إلى اللاجئين كعبء اقتصادي أو تهديد ثقافي، مما يؤدي إلى تنامي خطاب الكراهية والتمييز ضدهم، المفارقة أن هذه المجتمعات نفسها قد تتباهى بقيمها الإنسانية في المحافل الدولية، لكنها تفشل في تطبيقها داخل حدودها.
واسترسلت: أحد أبرز التحديات الاجتماعية التي يواجهها اللاجئون هي صعوبة الاندماج، ليس فقط بسبب الفجوات اللغوية والثقافية، بل أيضًا نتيجة المواقف السلبية لبعض شرائح المجتمع، وفي كثير من الحالات، يصبح اللاجئ ضحية للصور النمطية التي تروجها بعض وسائل الإعلام والتي تصورهم على أنهم مصدر للمشاكل الاقتصادية أو الأمنية.
وقال إن هذه السرديات تعزز مناخًا من العزلة الاجتماعية، حيث يُحرم اللاجئون من فرص العمل والتعليم والمشاركة في الحياة العامة، مما يؤدي إلى خلق مجتمعات موازية تعيش على هامش المدن دون أمل في تحقيق الاندماج الفعلي، وفي المقابل، هناك أمثلة مشرقة لمجتمعات استطاعت تحويل قضية اللجوء إلى فرصة لتعزيز التنوع الاجتماعي والاقتصادي في بعض الدول، فقد أثبتت التجارب أن دمج اللاجئين في سوق العمل وتحفيز مساهمتهم الاقتصادية يمكن أن يعود بالفائدة على المجتمع ككل.
وأشارت العناني إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في أن المجتمعات لا تتعامل مع اللاجئين كأفراد يملكون الحق في حياة كريمة، بل وفق حسابات مصلحية تحدد مدى الترحيب بهم. في الأزمات الكبرى، يصبح استقبال اللاجئين ورقة ضغط سياسية تستخدمها الدول وفقًا لمصالحها، بينما يبقى البعد الإنساني مغيبًا، الأخوة الإنسانية لا تعني فقط تقديم المساعدات الطارئة، بل تتطلب بناء سياسات اجتماعية طويلة الأمد تضمن للاجئ حقوقه الأساسية، من التعليم إلى العمل إلى الشعور بالانتماء.
واختتمت حديثها، قائلة، إنه لبناء مجتمع قائم على مبادئ العدالة والتضامن لا يمكن أن يتم إذا استمر التعامل مع اللاجئين كغرباء مؤقتين، بل يجب النظر إليهم كجزء من النسيج الاجتماعي، لأن مصير الإنسانية مترابط، وما يصيب جزءًا منها ينعكس على الكل.