بعد توثيق 2090 انتهاكاً جسيماً.. الأطفال يدفعون «فاتورة الصراعات» في مالي

بعد توثيق 2090 انتهاكاً جسيماً.. الأطفال يدفعون «فاتورة الصراعات» في مالي
أطفال في دولة مالي- أرشيف

بين فكي النزاعات والفقر، يمضي الأطفال في دولة مالي الواقعة غرب إفريقيا، في انتهاكات تتواصل بين تجنيد واستغلال جنسي وقتل وأمراض وانعدام فرص العيش الكريم، وسط تقديرات أممية ترصد 2090 انتهاكًا جسيمًا ضد 1780 طفلًا بتلك الدولة الإفريقية.

ويرى حقوقيون أفارقة أن دولة مالي نموذج لما تشهده الأوضاع في إفريقيا من انتهاكات جسيمة مع تفشي النزاعات والهجمات المسلحة والفقر وعدم التعليم واستمرار النزوح بين وقت وآخر، مشددين على أن الحلول تتوقف أولا على وقف الحروب بمالي والتركيز على التعليم والدعم الاقتصادي والتأهيل والتوعية.

وبنهاية 2023، أكملت بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي انسحابها بعد عقد من الجهود المتعددة الأوجه لدعم الحكومة والشعب الماليين، عقب طلب السلطات المالية في وقت سابق من هذا العام إنهاء المهمة الأممية.

ولم تكن الأوضاع بعد الانسحاب أكثر هدوءا، فالهجمات المسلحة تجاه المدنيين مستمرة، وأعلن الجيش في مالي، الأحد أن مسلحين قتلوا 25 مدنياً وأصابوا 13 آخرين، في كمين نصبوه لركب يرافقه الجيش قرب مدينة جاو في شمال شرقي البلاد، وهي منطقة تنشط فيها جماعات لها صلات بتنظيمي "داعش" و"القاعدة"، منذ أكثر من عقد، ما زعزع الاستقرار في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

ووجد مسلحون موطئ قدم لهم في شمال مالي بعد تمرد انفصالي قام به الطوارق في عام 2012، وانتقلوا إلى دول أخرى في منطقة الساحل الوسطى الفقيرة جنوب الصحراء الكبرى، ومع تكرار الهجمات لجأ الجيش للقيام بمرافقات أمنية شبه يومية.

وذكر تقرير أممي حديث صادر بشأن الأطفال والنزاعات المسلحة، أن أطفال مالي عانوا من مستويات مرتفعة من العنف والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها جميع أطراف النزاع، وسط تراجع قدرات حماية الأطفال، خاصة بعد انتهاء مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البلاد.

انتهاكات جسيمة

ووفق التقرير الأممي، خلّف انسحاب “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار” في مالي (مينوسما) فجوة خطيرة في حماية الأطفال من تداعيات الصراع، متحدثا عن توثيق 2090 انتهاكًا جسيمًا ضد 1780 طفلًا خلال الفترة الممتدة من 1 أبريل 2022 إلى 31 مارس 2024.

وكشف التقرير عن تعرض 48 فتاة، تتراوح أعمارهن بين 12 و17 عامًا، للعنف الجنسي خلال فترة المراجعة، مشيرًا إلى احتمال أن يكون العدد الحقيقي أكبر بسبب الوصمة الاجتماعية والخوف من الإبلاغ عن هذه الجرائم.

وأشار التقرير إلى ارتفاع حالات الاختطاف، حيث تم توثيق 240 حالة، بزيادة قدرها 37 بالمئة مقارنة بالفترة السابقة.

وتفاقمت الأوضاع الإنسانية في شمال ووسط مالي، حيث تعذر وصول المساعدات الإنسانية إلى العديد من المناطق بسبب تزايد هجمات الجماعات المسلحة، ووثق التقرير 150 حالة منع لوصول المساعدات الإنسانية، ما أدى إلى حرمان العديد من الأطفال من الرعاية الصحية والغذاء والمأوى.

وأدى تجنيد الأطفال واستخدامهم في النزاع إلى تصدر قائمة الانتهاكات الجسيمة، حيث تم توثيق 1050 حالة خلال الفترة المشمولة بالتقرير، وتبع ذلك ارتفاع في حالات القتل والتشويه، ما يعكس تصاعد العنف المسلح وتأثيره المباشر على الأطفال.

وارتبطت ظاهرة تجنيد الأطفال بعدة عوامل، من بينها الصعوبات الاقتصادية، وانعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية، فضلًا عن تأثير تغير المناخ على المجتمعات المحلية، بحسب التقرير.

وعلى صعيد التعليم، أدى تصاعد العنف إلى إغلاق 1788 مدرسة، ما حرم 536400 طفل من حقهم الأساسي في التعليم، وجعلهم أكثر عرضة للانتهاكات الجسيمة، ورغم انخفاض الهجمات المباشرة على المدارس والمستشفيات خلال فترة التقرير، فإن التهديدات الأمنية المستمرة جعلت من الصعب استئناف العملية التعليمية في العديد من المناطق.

إحصاءات أممية 

وسبق أن قالت الأمم المتحدة في أبريل 2023 إنها سجَّلت 470 حادثة عنف جنسي، ارتكبتها الجماعات المسلحة، والقوات الحكومية وحلفاؤها في مالي، خلال الفترة من يناير إلى مارس من العام نفسه، من بينها 51 حادثة متصلة بالنزاع، وكان جميع الضحايا من النساء، بينهن فتيات لا تزيد أعمارهن على 12 عاما.

كما حذرت منظمة اليونيسف في أغسطس 2019، عبر بيان، من حدوث زيادة حادة في الانتهاكات الجسيمة المرتكبة ضد الأطفال في مالي خلال العام الحالي، لا سيما عمليات القتل والتشويه.

وتشير البيانات أن أكثر من 150 طفلا قتلوا في النصف الأول من عام 2019 فيما أصيب 75 آخرون في هجمات عنيفة، مع تضاعف تجنيد الأطفال واستخدامهم في الجماعات المسلحة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مع استمرار إغلاق أكثر من 900 مدرسة أبوابها بسبب انعدام الأمن.

وقدرت اليونيسف وقتها أن أكثر من 377 ألف طفل بحاجة إلى مساعدة الحماية في مالي، وحددت أن أكثر من 92 ألفا من الفتيات والفتيان المتضررين من النزاع بحاجة لتوفير الدعم النفسي 

تراجع مشاركة الأمم المتحدة

وفي تقرير أممي حديث، أكدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة للأطفال والنزاعات المسلحة، فيرجينيا غامبا، أن انسحاب بعثة "مينوسما" أدى إلى تراجع المشاركة المباشرة للأمم المتحدة مع أطراف النزاع، وهو ما يعد عنصرًا أساسيًا في منع الانتهاكات الجسيمة ومعالجتها.

ودعت غامبا جميع أطراف النزاع إلى الإفراج الفوري عن الأطفال المجندين، وحثتهم على التعاون مع الأمم المتحدة لتنفيذ خطط عمل واضحة تهدف إلى إنهاء هذه الممارسات.

وأشادت غامبا ببعض التقدم الذي أحرزته الحكومة الانتقالية في مالي، بما في ذلك مراجعة مشروع الخطة الوطنية لمنع الانتهاكات ضد الأطفال، كما أكدت أهمية استكمال مشروع قانون حماية الطفل، الذي يجرم تجنيد جميع الأطفال دون سن 18 عامًا.

وفي إطار جهود إعادة التأهيل، تم الإفراج عن 939 طفلًا، بينهم 772 فتى و167 فتاة، من صفوف القوات والجماعات المسلحة، وتم تقديم خدمات دعم نفسي واجتماعي لهم.

ودعت المجتمع الدولي إلى مواصلة الدعم السياسي والتقني والمالي لمساعدة الأطفال المتضررين من النزاع، وضمان إعادة إدماجهم في المجتمع، كما شددت على أهمية محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وتقديم تعويضات للضحايا، وتوفير برامج حماية تتناسب مع أعمارهم واحتياجاتهم.

واختتمت غامبا تقريرها بالتأكيد أن أطفال مالي يستحقون مستقبلًا آمنًا بعيدًا عن النزاع، داعيةً الحكومة الانتقالية إلى تسريع وتيرة الإصلاحات القانونية وتطبيق التدابير اللازمة لضمان حماية الأطفال من جميع أشكال الاستغلال والعنف.

الحلقة الأضعف 

وقال الحقوقي المختص في شؤون النزاعات، صالح عثمان، إن "معاناة الأطفال مرتبطة بالنزاعات المستمرة في كل أنحاء القارة والتي لا تُستثنى منه مالي".

وأكد عثمان، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "مالي نموذج لأوضاع مشابهة الأطفال في مناطق النزاعات في الكونغو والصومال والسودان، وباتت انتهاكات الأطفال ظاهرة متفشية منذ عقود مع تفشي النزاعات والصراعات الداخلية".

وأشار إلى أن "ما يحدث في مالي بعد خروج بعثة الأمم المتحدة من انتهاكات للأطفال مشابه لنموذج انسحاب الأمم المتحدة من دارفور"، مستدركا: "لكن ولو كانت البعثة موجودة أيضا فالانتهاكات كانت ستستمر لعدم حل الأسباب الحقيقية".

وأشار إلى أن النزاعات والفقر المدقع وانتشار البطالة في مالي وغيرها يجعلنا نرى تلك الانتهاكات للأطفال سواء باستغلال الفتيات أو تجنيد الأطفال واستغلالهم لإشعال وتيرة الصراع والنفوذ".

وشدد على أهمية الدور الأممي والإقليمي لا سيما الإفريقي لوقف النزاعات أولا في مالي وغيرها، لمواجهة تلك الانتهاكات، وتوجيه الدعم اللازم للمتضررين ومحاسبة الجناة، مؤكدين أنه دون ذلك سيبقى الضحايا وعلى رأسهم الأطفال معرضين باستمرار لجرائم.

ضحايا للصراعات

فيما اتفقت المحامية والحقوقية السودانية، إقبال أحمد، على أن الأطفال في مالي وباقي دول النزاع في إفريقيا ضحايا صراعات الكبار والنفوذ بالقارة، لافتة إلى أن التشرد وعدم وجود رعاية كاملة والنزوح المستمر والصراعات المسلحة دائما وراء استمرار الانتهاكات بحق تلك الشريحة الأضعف في أي نزاع.

وأكدت إقبال، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن غياب التعليم أحد أهم أسباب استمرار تلك الانتهاكات في مالي وغيرها من الدول الإفريقية، ويعزز استمرار بقاء الطفل المالي والإفريقي كضحية تقع تحت انتهاكات جسيمة متواصلة، مشيرة إلى أن غياب محاسبة الجناة لا يشجع على حماية حقيقية للأطفال ويجعلهم عرضة دائما لمثل الجرائم. 

وبخلاف حل النزاعات ودعم اقتصادي ونفسي للضحايا لا سيما للأطفال وأسرهم المتضررين، ترى الحقوقية إقبال أحمد أهمية وقف الصراعات السياسية والانقلابات بإفريقيا لإيجاد حلول عادلة بحق الأجيال المقبلة تجنب الأطفال في مالي والسودان وأي دولة إفريقية أن يكونوا وقوداً للنزاعات وضحايا مستمرين للانتهاكات والجرائم، مع تقديم دعم ورعاية كاملة للنازحين لعدم دفعهم للانخراط في تجنيد مرفوض.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية