من فيينا إلى ميونيخ.. تصاعد العنف في أوروبا يزيد الضغط على المهاجرين

من فيينا إلى ميونيخ.. تصاعد العنف في أوروبا يزيد الضغط على المهاجرين
سلاح أبيض- أرشيف

شهدت أوروبا في الآونة الأخيرة تزايداً ملحوظاً في حوادث الطعن العشوائي، التي تعد من أكثر أشكال العنف الدموية ترويعًا، حيث بدأت هذه الحوادث، التي غالباً ما تتسم بالعشوائية وعدم وضوح الدوافع، في الانتشار بشكل ملحوظ في العديد من البلدان الأوروبية. 

وبينما تترك هذه الحوادث وراءها العديد من الضحايا، تثير تساؤلات متعددة حول الأسباب الحقيقية لهذا التصاعد في العنف، سواء كان له علاقة بأزمات اجتماعية أو اقتصادية أو حتى دوافع متطرفة. 

حادث الطعن الأخير في النمسا، الذي وقع في مدينة فيلاخ جنوب البلاد، ليس إلا آخر حلقة في سلسلة من الهجمات العشوائية التي شهدتها القارة الأوروبية، لتصبح ظاهرة تستدعي الوقوف عندها.

في يوم 15 فبراير الجاري، أعلنت الشرطة النمساوية عن وقوع هجوم طعن في مدينة فيلاخ الواقعة جنوب النمسا، أسفر عن مقتل شخص وإصابة أربعة آخرين المهاجم، الذي تبين لاحقاً أنه طالب لجوء سوري، نفذ هجومه بشكل عشوائي باستخدام سكين في أحد شوارع المدينة. 

وأسفر الحادث عن مقتل صبي يبلغ من العمر 14 عاماً، فيما تراوحت إصابات المصابين الآخرين بين 14 و32 عاماً وقد تم توقيف المهاجم البالغ من العمر 23 عاماً في وقت لاحق من الحادث، وتعتبر هذه الحادثة من النوع الذي يثير القلق بشكل كبير في المجتمع الأوروبي، خاصة أن الهجوم لم يكن موجهًا ضد شخص بعينه، بل كان هجومًا عشوائيًا، مما يزيد من مخاوف المواطنين بشأن سلامتهم في الأماكن العامة.

ولكن هذا الحادث ليس الأول من نوعه في القارة الأوروبية، فقبل يومين من الحادث في النمسا، وقع حادث مشابه في مدينة ميونيخ الألمانية، حيث قام شخص بدهس مجموعة من الأشخاص باستخدام سيارة، ما أدى إلى مقتل طفلة ووالدتها وإصابة 37 آخرين المهاجم، الذي تبين لاحقاً أنه طالب لجوء أفغاني، تصرف وفقًا للشرطة بدوافع "متطرفة"، وقد تم توقيفه في وقت لاحق، وتعد هذه الحوادث جزءاً من موجة متزايدة من العنف في المدن الأوروبية، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها العديد من هذه الدول.

ويشير التقرير السنوي الذي أصدرته منظمة "سيفيرز" لحقوق الإنسان في عام 2024 إلى أن حوادث الطعن العشوائي في أوروبا شهدت زيادة بنسبة 25% مقارنة بالعام الذي قبله وفقًا للتقرير نفسه، سجلت المملكة المتحدة أكبر عدد من حوادث الطعن في عام 2024، حيث تم الإبلاغ عن أكثر من 2,000 حالة طعن عشوائي، مما يشكل زيادة بنسبة 15% مقارنة بالعام الذي قبله.

وفي فرنسا، بلغ عدد حوادث الطعن في عام 2024 نحو 1,500 حادث، وهو ما يعكس زيادة بنسبة 18% مقارنة بعام 2023، أما في ألمانيا فقد شهدت المدن الكبرى مثل برلين وميونيخ تصاعداً في مثل هذه الحوادث، حيث سجلت الشرطة أكثر من 1,200 حالة طعن في العام الماضي.

تعتبر الأسباب التي تقف وراء تصاعد هذه الظاهرة معقدة ومتعددة، ولا يمكن اختصارها في سبب واحد فعلى سبيل المثال، يُنسب جزء من هذه الزيادة إلى الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها العديد من المجتمعات الأوروبية، ففي بلدان مثل النمسا وألمانيا وفرنسا يعاني العديد من الشباب من الشعور بالعزلة الاجتماعية والفقر، ما يدفعهم إلى الانخراط في سلوكيات عنيفة. 

ووفقًا لدراسة أجرتها "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) في عام 2023، يعاني نحو 25% من الشباب في الدول الأوروبية من مستويات عالية من البطالة، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية هذا يشكل بيئة خصبة لظهور السلوكيات العنيفة، مثل الطعن العشوائي.

ويُعتقد أن انتشار الفكر المتطرف قد يكون عاملاً آخر في تصاعد هذه الحوادث، فالحوادث التي شهدتها مدن مثل ميونيخ تشير إلى وجود دافع متطرف خلف بعض الهجمات. يشير خبراء في الشأن الأمني إلى أن العديد من الشباب الذين ينتمون إلى أقليات دينية أو ثقافية قد يتأثرون بالأيديولوجيات المتطرفة، سواء عبر الإنترنت أو من خلال التفاعل مع مجموعات متطرفة على الأرض، فوفقًا لدراسة حديثة نشرها مركز "التحقيقات الأوروبية" في 2024، يُعتقد أن نحو 12% من الهجمات العشوائية في أوروبا قد تكون مرتبطة بعوامل متطرفة.

ولا يمكن تجاهل عامل الأزمات النفسية والعقلية كأحد العوامل التي قد تسهم في تزايد حوادث الطعن. فقد أظهرت دراسات أجرتها "منظمة الصحة العالمية" في عام 2023 أن نحو 20% من الشباب في أوروبا يعانون من اضطرابات نفسية، تتراوح بين الاكتئاب والقلق والفصام في العديد من الحالات، قد يؤدي هذا الشعور بالضياع إلى التصرفات العنيفة، وهو ما يفسر بعض الحالات التي تكون فيها دوافع الهجوم غير واضحة أو غير منطقية.

وبالنسبة للشرطة الأوروبية، فقد أصبحت قضية مكافحة هذه الحوادث من أولوياتها في السنوات الأخيرة. ففي فرنسا، على سبيل المثال، استثمرت الحكومة الفرنسية في تعزيز التدابير الأمنية في المدن الكبرى، حيث تم نشر أكثر من 10,000 عنصر شرطة في الشوارع لمكافحة حوادث العنف، كما قامت الحكومة الألمانية بتخصيص ميزانية إضافية للشرطة في محاولة للحد من تصاعد هذه الظاهرة. وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن مكافحة هذه الحوادث ما زالت تواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك صعوبة تحديد هوية المهاجمين في بعض الحالات، فضلاً عن التحديات المتعلقة بالموارد البشرية والمالية.

تحديات حقوق الإنسان والأمن الشخصي

وقال الخبير الحقوقي التونسي، مصطفى عبد الكبير، إن انتشار حوادث الطعن العشوائي في أوروبا، كما يظهر من الحادث الأخير في النمسا، يثير قلقًا شديدًا من منظور حقوق الإنسان هذه الحوادث التي تزداد وتيرتها في مختلف البلدان الأوروبية لا تقتصر على كونها مجرد أعمال عنف، بل تحمل أبعادًا إنسانية وقانونية معقدة إذ يُمكن النظر إليها من عدة جوانب، بدءًا من الحق في الحياة والسلامة الشخصية، وصولًا إلى التحديات التي تواجهها الدولة في حماية حقوق الأفراد.

وتابع عبد الكبير، في تصريحات لـ"جسور بوست": من المهم أن نتذكر أن كل شخص له الحق في الحياة والأمن الشخصي، وهو ما يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة، وتعتبر الدول ملزمة بحماية هذا الحق لكل فرد في مجتمعها، دون تمييز، ومع تزايد حوادث الطعن العشوائي، تصبح هذه الحماية موضع تساؤل، فالمواطنون، سواء كانوا في شوارع فيينا أو ميونيخ أو غيرها من المدن الأوروبية، أصبحوا يشعرون بأن حياتهم مهددة بشكل متزايد من جراء هذه الهجمات العشوائية، وعليه، فليس فقط القوانين التي تتعامل مع الجريمة هي المسؤولة عن ضمان حق الحياة.

واسترسل: العنف العشوائي الذي يطول الأشخاص في الأماكن العامة يهدد استقرار المجتمعات، ويثير مشاعر الخوف والقلق بين المواطنين، لا يقتصر الأمر على الضحايا أنفسهم، بل يمتد إلى الأسر والمجتمعات المحلية، وعليه فإن مسؤولية الدولة في الحفاظ على الأمن والسلامة تتجاوز الحدود التقليدية للمجرد فرض قوانين ردعية، بل تشمل أيضًا توفير بيئة تحمي الأفراد من جميع أشكال العنف وتطرح حوادث الطعن العشوائي تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومات الأوروبية قد نجحت في توفير هذا النوع من الأمان، أم أن هناك قصورًا في السياسات العامة.

وأشار إلى أن حوادث الطعن العشوائي تثير أيضًا قضايا حقوقية متعلقة باللاجئين والمهاجرين، ففي بعض الحالات يكون المهاجمون من طالبي اللجوء أو المهاجرين، وهو ما يعزز من مخاوف المجتمع المحلي تجاه هؤلاء الأفراد، رغم أن غالبية هؤلاء لا يتورطون في مثل هذه الجرائم في هذه الحالات، يصبح من المهم أن تكون الدولة على دراية تامة بحقوق اللاجئين والمهاجرين، فالحق في اللجوء هو حق أساسي ضمن معايير حقوق الإنسان الدولية، ويجب على الدول الأوروبية أن تضمن حماية هؤلاء الأفراد من جميع أشكال التمييز والاضطهاد.

وأتم: تظل الحوادث العشوائية مثل الطعن في أوروبا بمثابة دعوة لإعادة النظر في سياسات الدول تجاه حقوق الإنسان، فيجب على الحكومات الأوروبية أن تتحمل مسؤولياتها في توفير بيئة آمنة للمواطنين والمقيمين على حد سواء، كما يجب أن يكون هناك تركيز أكبر على الوقاية من الجريمة عبر تعزيز العدالة الاجتماعية وخلق فرص أفضل للأفراد الذين يعانون من الفقر والعزلة.

تحديات الاندماج وأزمة الأمن

وقال سامر طه، عربي مقيم في النمسا وذو أصول سورية: أشعر بكثير من القلق نحو تصاعد حوادث الطعن العشوائي في أوروبا، خاصة بعد الحادث الأخير في النمسا، هذه الحوادث تتجاوز كونها مجرد حالات فردية مؤلمة لتصبح جزءًا من ظاهرة تهدد السلم الاجتماعي وتثير تساؤلات كبيرة عن الأوضاع التي أدت إلى هذه الانفجارات العنيفة في المجتمع، بينما لا يمكن ربط كل حادث من هذه الحوادث بمجموعة أو قومية أو خلفية معينة، إلا أن مثل هذه الوقائع تفتح بابًا واسعًا من الجدل حول تأثير الهويات المهاجرة والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية على سلوك الأفراد في المجتمعات المضيفة.

وتابع طه، في تصريحات لـ"جسور بوست": من واقع خبرتي كمواطن نمساوي من أصل سوري، أجد أن هذا النوع من العنف يعكس تراكمات نفسية واجتماعية عميقة، في المجتمع النمساوي، مثلًا، ورغم الجهود المبذولة في دمج المهاجرين، فإن هناك فجوة واضحة في كيفية التعامل مع التحديات التي يواجهها اللاجئون والشباب المهاجرون، إن مشاعر العزلة والانتماء إلى مجتمعات لا تشعر بالكثير من الأمان ولا تجد الفرص المتساوية لتطوير الذات، تكون غالبًا بيئة خصبة لظهور العنف، حتى لو كانت الدوافع في بعض الحالات فردية، فإن وجود مشاعر الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن يزيد من احتمالية حدوث مثل هذه التصرفات العنيفة.

وأضاف، لقد كنت جزءًا من المجتمع النمساوي الذي يحرص على بناء تماسك اجتماعي بين جميع أطيافه، لكن الواقع يشير إلى أن هناك حاجة ماسة إلى سياسات تكامل أكثر فاعلية وداعمة.. فالنمسا، مثلها مثل العديد من الدول الأوروبية، شهدت تدفقًا كبيرًا للمهاجرين، ولا يمكن أن نتجاهل أن كثيرين منهم يعانون من البطالة أو الشعور بالعزلة، ما يجعلهم عرضة للمشكلات النفسية والسلوكية هذه القضايا، في غياب الدعم الكافي من المجتمع والدولة، قد تؤدي إلى تفاقم العنف أو الاضطرابات النفسية، وهي عوامل يمكن أن تسهم في وقوع مثل هذه الحوادث.

وأشار إلى أن هناك مسألة أخرى تتعلق بوعي المجتمع ووسائل الإعلام في التعامل مع هذه الحوادث. للأسف، غالبًا ما تُستخدم الحوادث الفردية لتعزيز الصور النمطية السلبية ضد المهاجرين أو اللاجئين، ما يخلق أجواء من التوتر وعدم الثقة بين مختلف أطياف المجتمع.. ففي مثل هذه الأوقات يتوجب على السلطات الإعلامية والحكومية أن تكون أكثر وعيًا وتحفظًا في سرد الأخبار وتقديم التحليلات بعيدة عن التحيز، إذ إن أي إشاعة أو ربط غير مدروس يمكن أن يعمق الانقسامات الاجتماعية.

وتابع: لا يمكننا أن نتغاضى عن أهمية المسؤولية الشخصية والمجتمعية في التعامل مع مثل هذه الجرائم.. ومن واجب المجتمع النمساوي أن يبذل المزيد من الجهد لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأفراد الذين قد يشعرون بالعجز أو الاستبعاد، وأن تعمل الحكومة على توفير برامج تكامل تتجاوز تعليم اللغة وتوفير السكن، لتشمل أيضًا التفاعل الفعلي بين المجتمعات وتبادل الفهم الثقافي.

وأتم: تصاعد حوادث الطعن في أوروبا يمثل دعوة مهمة للمراجعة وإعادة التفكير في كيفية التعامل مع قضايا المهاجرين والشباب المهمشين، وفي النمسا تحديدًا يجب أن نتذكر أن بناء مجتمع متماسك يتطلب أكثر من مجرد حماية أمنية؛ بل يجب أن يكون هناك استثمار حقيقي في الإنسان، وفي تقديره لكرامته وحريته، وهذا يتطلب عملًا جماعيًا على شتى الأصعدة السياسية والاجتماعية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية