تعددية مؤجلة.. هل يعرقل غياب قانون الأحزاب مستقبل الديمقراطية السورية؟
تعددية مؤجلة.. هل يعرقل غياب قانون الأحزاب مستقبل الديمقراطية السورية؟
شكّلت مسودة الإعلان الدستوري السوري وثيقة أساسية في إطار المرحلة الانتقالية التي تهدف إلى إعادة بناء الدولة بعد أكثر من عقد من النزاع، حيث حددت المسودة الإطار القانوني والسياسي للبلاد، ورسمت ملامح العلاقة بين الدولة والمواطن، ولا سيما فيما يتعلق بالحريات والحقوق الأساسية، غير أن مراجعة متأنية لبنودها أثارت تساؤلات حول مدى قدرتها على تلبية التطلعات الشعبية وضمان الحريات، خصوصًا في ظل تجارب سابقة أظهرت هشاشة الضمانات القانونية للحريات العامة والمواطنة المتساوية في سوريا.
وأبرزت النصوص المتعلقة بالمرجعية التشريعية إشكالية الدين والدولة بوضوح، حيث نصّت المسودة على أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع"، فقد حافظ هذا النص على النهج الدستوري السابق الذي يجعل من الإسلام مرجعًا أساسيًا للتشريع، لكنه لم يوضح حدود تأثيره في القوانين المدنية، ولا سيما فيما يتعلق بحقوق المرأة والأقليات الدينية، وأثارت هذه الإشكالية مخاوف من قدرة الدولة على ضمان حقوق جميع المواطنين بالتساوي، خصوصًا مع وجود أقليات مثل المسيحيين والإيزيديين الذين تعرضوا للتهميش والانتهاكات خلال السنوات الماضية.
وأكدت المسودة حماية حرية الاعتقاد، حيث نصّت على أن "حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية". غير أن هذا النص بقي فضفاضًا لعدم تحديده آليات قانونية واضحة تضمن تطبيقه عمليًا، وكشفت التجارب السابقة في سوريا أن مثل هذه البنود قد تُستخدم بشكل انتقائي، إذ لا يزال قانون العقوبات السوري يتضمن موادَّ تُجرّم بعض أشكال التعبير الديني، مثل التجديف والإساءة إلى الدين، وهي مواد يُمكن توظيفها لتقييد حرية المعتقد.
المساواة أمام القانون
نصّت المسودة على أن "جميع المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات دون تمييز"، وهو مبدأ يتماشى مع المعايير الدولية، إلا أن تحقيق المساواة الفعلية يتطلب إصلاحات قانونية، ولا سيما تلك التي تتعلق بحقوق المرأة، التي ما تزال تواجه قوانين تمييزية في مجالات الأحوال الشخصية والميراث والجنسية، وكشف تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) لعام 2023 أن نسبة تمثيل النساء في مراكز صنع القرار في سوريا لم تتجاوز 13%، ما يعكس الحاجة إلى تعزيز المساواة الجندرية في الدستور.
وتناولت المسودة مسألة الحريات السياسية وتشكيل الأحزاب بقدر من التقييد، حيث أشارت إلى احترام الدولة لحق المشاركة السياسية، لكنها علّقت تنظيم الحياة الحزبية لحين صدور قانون ينظم ذلك. أثارت هذه الصياغة القلق من إمكانية استخدام القوانين المقبلة لتقييد التعددية السياسية، ولا سيما في ظل غياب ضمانات واضحة لمنع احتكار السلطة من جهة واحدة، وأظهرت تجارب دول أخرى، مثل مصر بعد ثورة 2011، أن تأجيل إصدار قانون الأحزاب أدى إلى استمرار سيطرة النخب التقليدية، ما أضعف التعددية السياسية.
وأكدت المسودة التزام الدولة "بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية بما يضمن محاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا"، وهو مبدأ جوهري لأي انتقال ديمقراطي، غير أن نجاحه يتطلب آليات واضحة للتطبيق، ولا سيما في ظل استمرار معاناة أكثر من 130 ألف شخص من الاختفاء القسري في سوريا، وفق تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان عام 2024، وأظهرت تجارب العدالة الانتقالية في دول مثل جنوب إفريقيا وكولومبيا أهمية وجود لجان مستقلة للحقيقة والمحاسبة، إضافة إلى تعويضات للضحايا، وهو ما لم تتطرق إليه المسودة بشكل تفصيلي.
السياسات اللغوية وحقوق الأقليات
حددت المسودة "اللغة العربية" لغةً رسمية للدولة، لكنها لم تعالج وضع اللغات الأخرى المستخدمة من قبل الأقليات، مثل الكردية والآرامية، وفي ظل الأوضاع الراهنة، تبرز الحاجة إلى سياسات لغوية تعترف بالتعددية الثقافية، بما يضمن حقوق جميع المكونات السورية في التعبير عن هويتها.
ورغم أن مسودة الإعلان الدستوري السوري تضمنت مبادئ تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، فإنها افتقدت إلى آليات تنفيذية واضحة تضمن تطبيقها، الإبقاء على النصوص الفضفاضة دون تحديد كيفية تنفيذها قد يُحوّل هذه المبادئ إلى شعارات لا تؤدي إلى تغيير ملموس، وبناءً على ذلك، فإن نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا يعتمد على تضمين الدستور لآليات حقيقية تُحقق العدالة والمساواة لجميع المواطنين.
وقال الخبير القانوني والأكاديمي عبد الله السعداوي، إن المسودة تضمنت حظرًا على الأحزاب السياسية، لكنها ربطت هذا الحظر بشرط إصدار قانون ينظم الحياة الحزبية، ما يعني أن الحق في المشاركة السياسية يظل معلقًا بانتظار تشريع لم يصدر بعد، رغم أن النصوص الدستورية تؤكد المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز، فإن هذه المساواة تبدو مجردة وغير مدعومة بآليات واضحة تضمن تكافؤ الفرص والممارسة الفعلية للحريات السياسية.
وتابع السعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الحديث عن ضمان المشاركة السياسية لجميع السوريين دون استثناء يبدو في ظاهره التزامًا بالمبادئ الديمقراطية، إلا أن تعليقه على شرط لم يتحقق بعد يجعله أمرًا نظريًا أكثر منه واقعًا ملموسًا؛ فالمسودة تعترف بحق تشكيل الأحزاب السياسية، لكنها لم تحدد الأسس الوطنية التي يجب أن تُبنى عليها هذه الأحزاب، ما يجعل المصطلح فضفاضًا ويترك مجالًا واسعًا للتفسير.
ممارسة الحقوق السياسية
وقال إن الأحزاب السياسية، التي تعد إحدى الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي، تم تعطيل نشاطها بالكامل بموجب هذه المسودة، إذ لا يحق لأي طرف تأسيس أو ممارسة أي نشاط حزبي حتى صدور القانون المنظم لذلك، وهذا التعليق يعني أن السوريين ما يزالون غير قادرين على ممارسة حقوقهم السياسية بشكل فعلي، وهو ما يثير تساؤلات حول المدى الزمني الذي سيستغرقه المشرع لإصدار هذا القانون، وما إذا كان سيتيح بالفعل تعددية سياسية حقيقية أم سيأتي بشروط قد تحدّ من جوهر العمل الحزبي.
وأشار السعداوي، إلى التزام المسودة بتحقيق السلم المجتمعي ومنع الفتنة بين مكونات المجتمع السوري يعكس توجهًا نحو تعزيز الوحدة الوطنية، غير أن هذه المبادئ تبقى رهينة بمدى استعداد الدولة لتطبيقها على أرض الواقع، فالنصوص الدستورية وحدها لا تكفي لضمان الاستقرار، بل يجب أن تكون مصحوبة بإجراءات تنفيذية تضمن حماية الحقوق والحريات السياسية دون انتقائية.
وتابع، أما فيما يتعلق بحقوق الأقليات، فقد أكدت المسودة المساواة بين جميع المواطنين دون استثناء، موضحة أن الحقوق والواجبات تشمل الجميع دون تمييز، وهذا الالتزام يشمل بُعدين رئيسيين، الأول يتعلق بحقوق المواطن السوري التي يُفترض أن تكون مكفولة لجميع الأفراد دون تفرقة، والثاني يتعلق بالواجبات التي يجب أن يتحملها الجميع على قدم المساواة، دون منح امتيازات خاصة لطائفة أو فئة معينة.
ويرى السعداوي، أن قانون الأحزاب المنتظر سيكون الاختبار الحقيقي لمدى التزام الدولة بوعودها الدستورية، إذ لا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية فعلية دون وجود إطار قانوني يتيح تعددية سياسية حقيقية، إذا لم يكن هذا القانون عادلًا وشفافًا، فإن المبادئ التي جاءت بها المسودة ستظل مجرد نصوص لا تجد طريقها إلى التطبيق العملي.
وأتم، غياب قانون الأحزاب حتى الآن يجعل من الصعب قياس مدى التوجه الديمقراطي للدولة، إذ إن استمرار غياب الأحزاب الفاعلة يعني أن المشاركة السياسية ستبقى شكلية دون تأثير حقيقي في الواقع السياسي، فالمرحلة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل التعددية السياسية في سوريا، فإما أن يتم إطلاق قانون يرسّخ بيئة سياسية تعددية، أو أن يبقى الواقع السياسي محكومًا بقيود تفرغ هذه المبادئ من مضمونها الفعلي.
تعددية دينية ووحدة وطنية
أكد عضو مجلس الشيوخ المصري، أحمد القناوي، أن الدستور السوري يعكس الهوية الطبيعية للشعب السوري، حيث يُعد الدين الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع، مع الاعتراف بوجود مواطنين ينتمون إلى أديان أخرى، مشيرًا إلى أن هذا الأمر يُعد مهمًا لضمان تمثيل التعددية الدينية والمذهبية في سوريا، وجود قوى مثل هيئة تحرير الشام، التي تتمتع بمرجعية دينية، يجعل من الصعب تقديم دستور أكثر مدنية، حيث إن ذلك قد يتعارض مع معتقدات هذه القوى السياسية. ووصف هذا النهج بأنه "طرح متوازن" يراعي الخصوصيات الدينية والسياسية في سوريا.
وتابع القناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، اللغة العربية تُعد جزءًا أساسيًا من الهوية السورية، مشددًا على وحدة الأراضي السورية وعدم قابليتها للتجزئة. وأوضح أن هذا التوجه يُسدّد الذرائع التي قد تستغلها بعض القوى الخارجية لتحقيق مصالحها، بما في ذلك محاولات تقسيم الدولة السورية، لافتًا إلى أن الإعلان الدستوري الحالي يُعد خطوة تأسيسية لمرحلة جديدة، حيث قام بإلغاء الأحزاب السياسية بشكل مؤقت لحين إجراء حوار مجتمعي شامل يتم على أساسه إعلان دستور دائم تُقام الانتخابات وتتشكل الأحزاب بناءً عليه.
وأتم، هذه الخطوة ضرورية لضمان استقرار البلاد، لكنه أعرب عن تخوفه من إطالة أمد هذه المرحلة الانتقالية، خاصةً في ظل عدم وجود جدول زمني واضح لعملية التحول الديمقراطي التي ينص عليها الإعلان الدستوري.
دستور يُعيد إنتاج الدكتاتورية
عبرت الناشطة الحقوقية السورية، عهد قوجة، عن انتقاداتها الجادة للإعلان الدستوري السوري، مشيرة إلى أن صياغة الحريات العامة في الدستور تبدو وكأنها تحترم حقوق الإنسان، إلا أنها في الواقع مقيدة بقيود تفرضها السلطة التنفيذية المتمثلة برئيس الجمهورية.
وأضافت قوجة، في تصريحات لـ"جسور بوست"، حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وإن بدت مكفولة نظرياً، إلا أنها في الحقيقة معلقة بقيود غير واضحة المعالم ومؤجلة إلى أجل غير مسمى.
وأشارت إلى أن الدستور تناول حقوق الأقليات بشكل سطحي، حيث أكد ضرورة احترام معتقداتهم، لكنه أغفل الاعتراف بهم كونهم مواطنين كاملي الأهلية يتمتعون بحق المشاركة الفعلية في صنع القرارات المصيرية وإدارة شؤون الدولة، لافتة إلى أن المادة 23 من الدستور قد أفرغت الحريات من مضمونها، حيث قيدتها بشروط فضفاضة مثل "السلامة العامة" و"حماية الآداب العامة"، وهي مصطلحات مطاطية تتيح للسلطة تفسيرها بشكل تعسفي.
وأكدت الناشطة الحقوقية أن الدستور الحالي لا يلبي تطلعات الشعب السوري نحو دولة مدنية تقوم على العدل والمساواة، مشددة على ضرورة وجود تعددية حزبية حقيقية وفصل بين السلطات يحفظ الحريات ويضمن حقوق الإنسان، مضيفة أن الدستور الحالي يفتقر إلى آليات رقابية فعالة، حيث إن المحكمة الدستورية العليا، التي يتم تعيين أعضائها من قبل رئيس الجمهورية، لا تتمتع بصلاحيات كافية لمراقبة دستورية القوانين بشكل مستقل، ما يجعلها أداة في يد السلطة التنفيذية بدلاً من أن تكون حامية للحقوق والحريات.
وحذرت قوجة، من أن الدستور الحالي يعيد إنتاج نظام دكتاتوري، حيث إن السلطة التشريعية مقيدة بصلاحيات محدودة، ولا يتمتع الشعب بحق الرقابة الفعلية على القرارات المصيرية. كما أشارت إلى أن الدستور يتجاهل التنوع العقائدي والثقافي في سوريا، حيث تم أُهملت حقوق العديد من المكونات الاجتماعية، وأُقصيت عن المشاركة السياسية الفاعلة.
ودعت الحقوقية السورية إلى دستور جديد يعكس طموحات الشعب السوري نحو السلام والحرية، دستور يضمن التعددية الحزبية دون تدخل من السلطة، ويؤسس لمساواة حقيقية بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية.
وأكدت أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في ظل دستور يكرس الطائفية والعنصرية، ويقمع حرية التعبير ويمنع المشاركة السياسية الحرة، داعية إلى وعي شعبي يقاوم إعادة إنتاج الاستبداد، ويطالب بدولة تقوم على مبدأ المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية.










