اللاجئ الرقمي.. مقيم في ذاكرة النظام وغائب عن «عين العدالة»
اللاجئ الرقمي.. مقيم في ذاكرة النظام وغائب عن «عين العدالة»
في زمن لم يعد فيه الوطن مجرد جغرافيا، ولا المنفى خيمة على حدودٍ مقفرة، بل بات الحضور والغياب مرهونين بإشارة ضوئية أو ضغطة زر، نشهد بزوغ ظاهرة "الشتات الرقمي" كأحد أكثر تجليات اللجوء تعقيدًا وغرابة في التاريخ المعاصر.
لم يعد اللاجئ يفرّ فقط من بطش الحروب أو القمع أو المجاعة، بل صار يتيه أيضًا في شبكات الإنترنت، معلّقًا في أنظمة رقمية ترسم له مصيرًا من خلف الشاشات، وتقرّر عنه دون أن تلمح وجهه أو تسمع صوته.
وبات من المألوف أن يمتلك اللاجئ عنوان بريد إلكتروني قبل أن يحصل على عنوان سكن، وأن يُطلب منه ملء استمارات رقمية وهو على قارعة الطريق، أو أن ينتظر قرارًا مصيريًا عبر إشعار في تطبيق لا يدعم لغته.
وتحولت التقنية التي وُعدت يوماً بأنها أداة تحرير وعدالة، إلى متاهة بيروقراطية جديدة، أكثر برودًا وأقل رحمة، حيث تُقاس أهلية الإنسان للبقاء أو الترحيل استنادًا إلى خاناتٍ تم ملؤها أم لا.
وقال لاجئ سوداني يقيم في مدينة كاليه الفرنسية: "طلب اللجوء في فرنسا كان أقرب إلى جلسة دردشة مع آلة، رفعت كل أوراقي، انتظرت الرد، وكل ما حصلت عليه كان رسالة آلية تقول إن المستندات غير واضحة، كيف تكون غير واضحة وأنا التقطتها في مركز تابع للدولة؟"، هذه التجربة تتكرر بآلاف الصور كل يوم.
وبينما يُروّج لمسألة الرقمنة بوصفها خطوة نحو الشفافية والفاعلية، فإن أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لعام 2024 ترسم صورة مغايرة: 67% من طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي تتم عبر منصات رقمية، إلا أن ما نسبته 38% من مقدمي هذه الطلبات يواجهون عراقيل تقنية تؤدي إلى تأخير أو إلغاء ملفاتهم، وهذا يعني أن أكثر من ثلث اللاجئين قد يُرفضون لا لعدم أهليتهم، بل لضعف البنية الرقمية أو سوء التصميم أو عائق اللغة.
ويبدو التحول الرقمي في قطاع الهجرة، رغم ما يحمله من وعود، أنه بات أداة لتقليص الاتصال البشري، وهو ما يتنافى مع روح العدالة وحق الاستماع. فبدل أن يُقابل اللاجئ بموظف يُحسن الإصغاء، يُقابل ببوابة إلكترونية، وعوضًا عن أن يُمنح حق الشرح، يُمنح خيار "التالي".
جدران افتراضية
باتت مبادئ حقوق الإنسان التي نادت بأن يُعامل طالب اللجوء بكرامة، تصطدم بجدران افتراضية لا ترى من اللاجئ سوى رقم طلب أو بصمة رقمية. فكيف يمكن، في ظل هذا الواقع، الحديث عن حماية البيانات أو ضمان الخصوصية؟ إنّ 45% من اللاجئين – وفقًا لمنظمة خصوصيتنا الرقمية – لا يعلمون أين تُخزن بياناتهم، أو من يمتلك حق الوصول إليها. هذه الأرقام تكشف عن خلل بنيوي في هندسة الرقمنة ذاتها حين تُطبّق في سياقات الهشاشة واللجوء.
وهنا تبرز مفارقة لافتة، وهي أن اللاجئ صار مكشوفًا بالكامل أمام الأنظمة، بينما لا يرى هو شيئًا من تلك الأنظمة. تُطلب منه تفاصيل حياته وماضيه، لكنه لا يعرف من يتلقى هذه البيانات، ولا أين تُنقل، ولا كيف تُستخدم. إننا أمام علاقة غير متكافئة على الإطلاق، أشبه بحوار من طرف واحد بين إنسان ونظام مغلق.
وما يزيد من تعقيد هذه الصورة هو ما أشارت إليه دراسة حديثة صادرة عن المركز الأوروبي للهجرة الرقمية في مارس 2024، والتي أكدت أن 31% من طلبات اللجوء الرقمية تُرفض لأسباب غير موضوعية تتعلق بخطأ في تحميل ملف، أو عدم وضوح صورة، أو عدم تطابق بسيط في التواريخ. هذه أسباب لا يمكن أن تُعتبر عادلة حين يُبنى عليها قرار مصيري يتعلق بمستقبل إنسان.
وحين تصبح البيروقراطية الرقمية، بديلاً عن التقييم الإنساني، تتحول إلى أداة لرفض غير معلن، فبدل أن يُبلّغ اللاجئ بقرار رفضه بناء على تقييم معمق، يُترك يتيه في متاهة إشعارات وأخطاء تقنية لا أحد يشرحها، هذه الطريقة تُفرّغ الحق في اللجوء من مضمونه، وتحوّله إلى مجرد تجربة مستخدم سيئة في تطبيق غير متجاوب.
ومن زاوية أخرى، فإن الاعتماد المفرط على المنصات الرقمية ألغى ما كان يُعرف بالاستثناءات الإنسانية، وهي تلك الحالات التي كان يمكن فيها لمسؤول ما أن يتخذ قرارًا بناء على ظرف استثنائي أو اعتبارات أخلاقية، في النظام الرقمي، لا توجد خانات للاستثناءات، ولا مكان للمفاجآت أو للكرم القانوني، كل شيء محكوم بخوارزمية، والخوارزميات لا تعرف الرحمة.
اللاجئ الإلكتروني
لقد ظهر ما يُمكن تسميته بـ"اللاجئ الإلكتروني"، وهو إنسان لا مكان له على الخريطة الجغرافية، لكنه حاضر بكثافة في قواعد البيانات، يعرف النظام عنه كل شيء.. أين تحرّك، متى غادر، مع من تحدث، لكنه يظل غريبًا. لا يستطيع أن يُقبّل ابنته في حديقة، أو أن يُصافح موظفًا، لأن وجوده محصور في شاشة، إنسان أُفرغ من جسده، ومُنح فقط ملفًا رقمياً.
وفي ظل هذا الواقع، ظهرت بعض المبادرات التي تحاول مواجهة هذا التجريد، كمبادرة "وجوه بلا جدران" التي أطلقت في بلجيكا عام 2023، لتوفير مقابلات إنسانية عبر الفيديو مع طالبي اللجوء، بإشراف مستشارين اجتماعيين حقيقيين، بهدف استعادة جزء من التواصل الإنساني، كما تسعى منصة "هويتك بأمان" إلى تطوير نظام يسمح بتخزين البيانات الحساسة في أنظمة مشفرة لا تتيح الوصول إليها إلا بإذن من اللاجئ نفسه، مما يعيد إليه بعض السيطرة على حياته الرقمية.
ورغم أن هذه المبادرات تعكس وعيًا متزايدًا بأزمة اللجوء الرقمي، إلا أنها ما زالت تسبح ضد التيار، لأن البنية الرقمية العامة لا تزال مصممة لخدمة الحكومات، لا الإنسان، وتظل القرارات الكبرى مرهونة بأجهزة لا تتفاعل إلا مع من يفهم لغتها.
الأخطر من ذلك هو الأثر النفسي العميق لهذا النوع من اللجوء، حيث تكشف دراسة أجراها مركز الصحة النفسية في أمستردام عام 2024 بيّنت أن 62% من اللاجئين الذين تعاملوا مع طلبات لجوء رقمية شعروا بفقدان السيطرة، واعتبروا التجربة مهينة، أكثر من نصفهم لم يجد من يشرح له الخطوات، ولا من يعينه على المضي قدمًا، هذه حالة من العزلة الرقمية تضاف إلى عزلتهم المكانية.
اللاجئ، إذن، بات محاصرًا من جهتين، من جهة الأنظمة التي تُجرّده من صوته، ومن جهة التكنولوجيا التي تُغرقه في متاهة لا يفهمها.. يتلقّى إشعارات لكنه لا يسمع كلمات، يملأ خانات لكنه لا يجد عينًا تنظر إليه. هذا الشكل من اللجوء لا يُشبه شيئًا سوى حبسٍ بلا جدران، انتظار بلا طابور، حكاية بلا راوٍ.
رقم في معادلة بلا روح
قال المهندس محمود الكومي، خبير التكنولوجيا ومهندس الذكاء الاصطناعي، إن التحول الرقمي، رغم ما يطرحه من آمال كبرى على مستوى الفاعلية والتحديث، أصبح في بعض الأحيان سيفًا ذا حدّين حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الفئات الهشة وعلى رأسها اللاجئون.
وأوضح الكومي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الرقمنة تسببت في تقليص التواصل الإنساني الطبيعي، حيث تحوّلت العلاقات التي كانت تُبنى على التفاعل البشري والتقدير الشخصي إلى علاقات آلية تعتمد على نماذج إلكترونية وأنظمة قرارات مدعومة بالذكاء الاصطناعي وقال إن هذه التحولات أدت إلى "تفريغ العملية من بعدها الإنساني"، حيث تضيع المشاعر والاعتبارات الشخصية في خضم نماذج تُملأ تلقائيًا وتقييمات تتم بناءً على مدخلات مبرمجة مسبقًا، دون أن يُمنح اللاجئ مساحة للتعبير عن خصوصية حالته أو قصته.
وأكد الكومي أن هناك أطرًا قانونية دولية يُفترض أن تحمي البيانات الشخصية للمهاجرين واللاجئين، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات المعروفة اختصارًا بـ«جي دي بي آر» (GDPR)، لكن الواقع العملي يشي بانفصال واسع بين النص والتطبيق، خاصة في البيئات التي يندر فيها الوعي الرقمي، مضيفا: "غالبًا ما يُستغل وضع اللاجئ بوصفه شخصًا في حالة ضعف، يجهل حقوقه الرقمية ولا يملك الأدوات التي تمكّنه من مساءلة الجهات التي تجمع بياناته أو تستخدمها".
وتحدث الكومي عمّا وصفه بظاهرة "اللاجئ الرقمي"، قائلاً، إن الرقمنة قد خلقت حالة من الوجود الشكلي للاجئ عبر ما يمكن تسميته بـ«الصورة الرمزية الرقمية» (refugee avatars). أي أن اللاجئ يُصبح حاضرًا في قواعد البيانات، وتُتخذ بشأنه قرارات مصيرية بناءً على خوارزميات، وليس على معطيات إنسانية حقيقية. وأضاف أن هذه التصنيفات الخوارزمية قد تُقصي أشخاصًا بأكملهم فقط لأن نماذج البيانات لم تتعرّف على خصوصياتهم، أو لأنهم لم يستطيعوا ملء استمارة بالطريقة الصحيحة.
وحول ما إذا كانت البيروقراطية الرقمية قد تحوّلت إلى أداة للرفض غير المعلن، أكد الكومي ذلك بوضوح، موضحًا أن النظام الرقمي قد يمنح إيحاء بالحركة والتقدّم، بينما يكون اللاجئ في الحقيقة عالقًا في دائرة مغلقة من النماذج والمواعيد المؤجلة، دون قدرة حقيقية على الوصول إلى نتيجة.
وقال: "البيروقراطية الرقمية قد تُستخدم كأداة رفض ناعمة، لا تقول لك ’لا‘ صراحة، لكنها تستنزف وقتك وجهدك وتُبقيك في حلقة لا نهاية لها".
وأشار إلى الفروقات العميقة التي أفرزتها الرقمنة بين مفهوم الحق والإجراء، خاصة في ما يتعلق بطلبات اللجوء عبر التطبيقات. فالحق، كما يقول، يجب أن يكون مضمونًا وغير مشروط، لكن حين يُحصر تقديمه في تطبيق إلكتروني قد يتعطّل أو يخضع لأعطال أو قيود خفية، فإن هذا الحق يتحوّل إلى إجراء هشّ يمكن التلاعب به أو تأجيله أو تعطيله بسهولة، وأضاف الكومي: "حين يصبح مصيرك متوقفًا على استجابة تطبيق أو نجاح رفع ملف، فإننا نكون قد انتقلنا من حماية الحق إلى التلاعب به تحت غطاء التكنولوجيا".
مواءمة أدوات تقييم اللاجئين
قال الدكتور فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، في تصريح صحفي يعكس عمق الفهم الإنساني والتقدير لأوضاع الفئات المستضعفة، إن التعامل مع اللاجئين لا يجب أن يُختزل في أدوات تقنية جامدة أو نماذج استبيان موحدة، بل يتطلب فهماً دقيقاً ومعاملة تراعي الخلفيات الثقافية والنفسية والاجتماعية التي يحملها كل فرد منهم.
وأوضح قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الاستبيانات التي تُعد لتقييم اللاجئين لا تُنتجها آلة محايدة، بل يصيغها الإنسان وفق رؤية الجهة أو الدولة التي تنتمي إليها المؤسسة القائمة على التقييم. ومن هنا تنشأ الإشكالية؛ إذ أن اللاجئ ليس قالباً نمطياً، بل هو فرد أتى من بيئة مختلفة، حاملاً معه ثقافة، وقيماً، وتجارب لا تشبه تلك التي صاغت الأسئلة الموضوعة له.
وأشار إلى أن هذه الفجوة الثقافية تُفضي غالباً إلى إجابات غير دقيقة، بل وقد لا يفهم اللاجئ السؤال أصلاً، لأن المرجعية الفكرية التي صيغت منها تلك الأسئلة لا تمت بصلة إلى الواقع الذي خرج منه.
وبيّن أن الاختلافات اللغوية تلعب أيضاً دوراً مركزياً في تعقيد عملية التقييم، حيث قد يُطلب من اللاجئ التعامل مع أوراق أو أنظمة لا يفهمها لغوياً، مما يؤدي إلى تشويه في نقل مطالبه أو في تفسير حاجاته، وهنا يكون الحكم عليه غير عادل، وهو ما وصفه الدكتور قناوي بـ"الظلم المعرفي"، لأن الإنسان يُقيَّم بمعايير لا تمت له بصلة.
وانتقد التعميم المفرط الذي تلجأ إليه بعض الجهات، حيث تُطبّق برامج تقييم موحدة على جميع اللاجئين في مختلف المناطق، دون مراعاة الفروقات الفردية أو السياقات الإقليمية. وتساءل قائلاً: "كيف لنا أن نتعامل مع طالب خدمة دون أن نعرف من هو، ومن أين أتى، وما هي اللغة التي يفكر بها، والثقافة التي يرى العالم من خلالها؟".
وأكد أن الحلول التقنية وحدها لا تكفي، بل لا بد من تضافر العقل البشري معها في الترجمة، والتأويل، والتفسير، فالتقنية يمكن أن تخدم الإنسان، لكنها لا تستطيع أن تحل محله حين يكون السياق إنسانياً بحتاً. ولهذا، شدد على أهمية أن تُبنى الاستبيانات وبرامج التقييم من منطلق ثقافة طالب الخدمة، لا من خلفية واضع الخدمة، لأن الأولى تعكس الواقع والثانية تمثل التصور.
وختم الدكتور قناوي تصريحه بالقول إن اللاجئ ليس رقماً في تقرير أو خانة في جدول، بل هو إنسان يطرق باب الأمان بعد أن عصفت به الأهوال. ومن الظلم أن يُعامَل بمنطق النمط، أو أن يُفهم عبر أدوات لم تُصنع له، مؤكداً ضرورة إعادة النظر في كل أداة تقييمية تُستخدم مع اللاجئين، وأن تُصاغ بمعايير تراعي الاختلاف، وتنطلق من الإنسان لا من النظام، لأن العدالة لا تتحقق بالأدوات، بل بالبصيرة التي ترى الإنسان قبل أن تحكم عليه.