تقنين "الموت الرحيم" يثير الجدل.. بريطانيا حائرة بين وصايا الكنيسة وصرخات المرضى
تقنين "الموت الرحيم" يثير الجدل.. بريطانيا حائرة بين وصايا الكنيسة وصرخات المرضى
تواجه بريطانيا جدلاً أخلاقياً وقانونياً محتدماً حول تقنين "الموت الرحيم"، في ظل تطورات اجتماعية وطبية متسارعة، وهو نقاش يعكس صراعاً عميقاً بين حرية الفرد واحترام قدسية الحياة، ومع تصاعد الأصوات المطالبة بمنح المرضى حق اتخاذ قرار إنهاء حياتهم عندما تصبح المعاناة فوق الاحتمال، يظل الموروث القانوني والديني في البلاد حذراً من خوض هذا المسار.
يعتمد الإطار القانوني الحالي على قانون الانتحار لعام 1961، والذي يجرّم أي مساعدة على الانتحار، ولو تمت بدافع الرحمة، ويُعاقب بالسجن حتى 14 عاماً، ولا تزال بريطانيا من الدول القليلة في أوروبا الغربية التي لا تعترف بأي شكل قانوني للقتل الرحيم، غير أن التحولات الاجتماعية باتت واضحة؛ فقد أظهر استطلاع "يوغوف" عام 2024 أن 73% من البريطانيين يدعمون شكلاً من أشكال المساعدة على الموت في الحالات الطبية المستعصية، وهي نسبة تعكس زيادة لافتة في التأييد الشعبي.
وشهد البرلمان البريطاني محاولات متعددة لتقنين "الموت الرحيم"، أبرزها مشروع القانون الذي قدمه اللورد فالكينر عام 2021، والذي وضع ضوابط صارمة للسماح للمرضى بإنهاء حياتهم طوعاً، منها قرب الوفاة خلال ستة أشهر وموافقة طبيبين، ورغم النقاش الحاد، فشل المشروع في المرور، مما يعكس استمرار الانقسام العميق داخل المؤسسة التشريعية.
وتعارض الكنيسة الأنجليكانية تقنين القتل الرحيم بشكل قاطع، حيث شدد رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، على أن "تقنين الموت الرحيم يقوض القيم الأخلاقية للمجتمع"، وفي المقابل، ظهرت أصوات دينية ومجتمعية أكثر ليبرالية تدعو إلى التوازن بين العقيدة والرحمة، خاصة من عائلات عايشت معاناة أحبائها في ظل أمراض لا تُحتمل.
تغيّر موقف الجمعية الطبية البريطانية إلى الحياد عام 2020 بعد تصويت داخلي، ما أفسح المجال أمام مزيد من النقاشات المهنية. ومع أن نحو نصف الأطباء يؤيدون المساعدة على الموت في حالات خاصة، لا يزال جزء كبير يرفض ذلك لأسباب أخلاقية أو خشية الاستغلال.
تجارب دولية تُغذي النقاش
تشكل تجارب دول مثل هولندا وبلجيكا وسويسرا وكندا محاور مرجعية في النقاش البريطاني، ففي هولندا، التي شرّعت القتل الرحيم منذ 2002، تطبّق معايير صارمة لحماية المريض، بينما ذهبت بلجيكا إلى السماح به للقُصَّر بشروط خاصة، أما كندا، فقد أثارت تجربتها الجدل بعد توسيع القانون ليشمل حتى الأمراض النفسية، وباتت وسويسرا، عبر منظمات مثل "Dignitas"، وجهة للبريطانيين الراغبين في "موت كريم"، حيث تشير بيانات "الجارديان" إلى أكثر من 500 حالة لبريطانيين بين 2008 و2023.
وأعادت قضية نيك لينسون عام 2014 تسليط الضوء على غياب إطار قانوني محلي، حيث رفضت المحكمة العليا منحه حق المساعدة على الموت، مؤكدة أن المسألة من اختصاص البرلمان، وفي ظل هذا الفراغ، يضطر بعض المرضى للسفر إلى الخارج، ما يفتح الباب لأسئلة أعمق حول دور الدولة في تقرير مصير الفرد.
ويبقى السؤال المحوري حاضراً في قلب هذا الجدل: من يمتلك الجسد؟ وهل يمكن للدولة أن تمنع شخصاً واعياً من اتخاذ قرار بإنهاء معاناة لا تطاق؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة في السياسة البريطانية، بين حماية الحياة واحترام كرامتها، فالموت الرحيم ليس فقط قضية قانونية، بل هو امتحان لقيم المجتمع ورؤيته لمعنى الحياة والكرامة والحرية.
حق إنهاء المعاناة
قال الخبير القانوني والأكاديمي الدكتور عبد الله سعداوي، إن ما يُعرف بـ"القتل الرحيم" لا يزال من أكثر القضايا القانونية والأخلاقية إثارة للجدل على مستوى العالم، بين من ينظر إليه كحق فردي لإنهاء المعاناة، ومن يعتبره تعدياً صارخاً على قدسية الحياة، موضحا أن مصطلح القتل الرحيم يُستخدم للإشارة إلى منح شخص، غالباً ما يكون مصاباً بمرض عضال لا أمل في شفائه، الحق في إنهاء حياته بإرادته، أو بمساعدة طبية.
وأشار سعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن التشريعات العربية على اختلافها تتفق على تجريم هذا الفعل، واعتباره نوعاً من القتل العمد، حتى وإن تم بناءً على طلب صريح من المريض أو برغبته، وهذا الموقف القانوني نابع من منظومة أخلاقية ودينية ترى في الحياة هبة لا يجوز التصرّف بها، حتى في ظل الألم والمعاناة، مؤكدا أن القانون العربي يجرّم "القتل الرحيم" ليس فقط لحماية الفرد، بل لحماية المجتمع من الانزلاق إلى مساحات رمادية تُفرغ الحق في الحياة من مضمونه وتفتح أبواباً خطيرة أمام التلاعب.
وعلى الجانب الأوروبي، أشار سعداوي، إلى أن الراصد للتحولات المجتمعية والقانونية في القارة يلاحظ تزايداً في عدد الدول التي تُقر هذا الحق، سواء تحت مسمى "الموت الرحيم" أو “المساعدة على الانتحار”، لافتا إلى أن ألمانيا على سبيل المثال، ألغت المادة 217 من قانون العقوبات، التي كانت تحظر المساعدة على الانتحار، وأجازت القتل الرحيم ضمن ضوابط طبية وقانونية.
وقال سعداوي إن المشرع البريطاني يساير في كثير من جوانبه التوجهات القانونية للدول العربية وبعض الدول الأوروبية المتحفظة، إذ لا يبيح بأي حال من الأحوال القتل الرحيم، حتى لو كان الشخص مريضاً بمرض عضال، ولا أمل له في النجاة، وكان موته متوقعاً خلال ساعات، ويعود هذا الموقف إلى تقدير عميق لقيمة الحياة الإنسانية، ولواجب الدولة في حمايتها، لا في التسهيل من إنهائها.
وأكد الخبير القانوني أن ما يميز القانون البريطاني، رغم ضغوط الرأي العام وبعض الأصوات الطبية والحقوقية، هو تمسكه بمبدأ أن الحياة ليست ملكاً للفرد وحده، وإنما هي جزء من نسيج مجتمعي أوسع. فالفرد، وإن امتلك حقاً شخصياً في تحديد مصيره، لا يحق له المساس بالحق في الحياة بوصفه حقاً عاماً للمجتمع، يجب صونه وضمانه، وهذا المبدأ يعكس فلسفة قانونية ترى في تنظيم الحقوق الفردية وسيلة لحماية المصلحة الجماعية، لا لتفكيكها أو تقويضها.
وأوضح سعداوي أن التشريعات التي سمحت بالموت الرحيم استندت إلى واقع طبي يفرض نفسه في بعض الأحيان، إذ يواجه الأطباء حالات لا يمكن علاجها، ويصبح فيها استمرار الحياة عبئاً جسدياً ونفسياً على المريض وعائلته، إلا أن هذا الاعتبار لم يكن كافياً في وجه الدول التي تحتكم إلى مرجعيات دينية وأخلاقية راسخة.
وختم سعداوي تصريحه بالتأكيد أن الجدل حول القتل الرحيم سيبقى مفتوحاً، وأنه مرشح لمزيد من التأزم مع تطور الطب وزيادة قدرته على إطالة أمد الحياة دون ضمان نوعيتها.
لكنه أشار في الوقت ذاته إلى ضرورة أن تبقى هذه النقاشات محكومة بالقيم الإنسانية العليا، وبمراعاة التوازن الدقيق بين احترام إرادة الفرد، وصون قدسية الحياة كقيمة لا يُفرط فيها مهما اشتدت المعاناة.
الحق في الحياة خط أحمر
من جانبه، أكد خبير القانون الدولي، كمال يونس، أن الحق في الحياة يُعدّ من أقدس الحقوق التي كفلتها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية، ولا يجوز بأي حال من الأحوال انتهاكه أو تجاوزه تحت أي ذريعة، هذا الحق ليس مجرد قيمة إنسانية بل هو حجر الأساس في منظومة الحقوق الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات، وهو حق راسخ نصت عليه صراحة الاتفاقيات الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اللذين ألزما الدول بحماية حياة الأفراد.
وأضاف يونس، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن بريطانيا بحكم عضويتها في المنظومة الأممية، مطالبة التزاماً لا اختياراً، بحماية أرواح البشر واتخاذ كافة التدابير القانونية والمؤسساتية لمنع أي انتهاك لهذا الحق، مشيراً إلى أن أي تفريط في هذه المسؤولية يُعد إخلالاً جسيماً بالتزامات الدولة الدولية، وقد يعرّضها للمساءلة أمام محكمة العدل الدولية، أو لمواقف صارمة من مجلس الأمن والمنظمات الحقوقية العالمية.
ولفت إلى أن محكمة العدل الدولية سبق أن اتخذت مواقف حازمة في قضايا تتعلق بانتهاك الحق في الحياة، وكانت قراراتها دائماً تنطلق من ثوابت قانونية وأخلاقية واضحة، تؤكد أن أي تساهل في حماية هذا الحق يُعد خطيئة قانونية وأخلاقية لا يمكن السكوت عنها.
وأشار يونس إلى أن ثمة محافل فكرية ومراكز نفوذ عالمية، مثل "المحفل الماسوني"، تعمل خفية وبوسائل ناعمة على التأثير في سياسات بعض الدول، بهدف تمرير أفكار تتناقض مع القيم الإنسانية والمواثيق الدولية، ومن بينها الدفع نحو تشريعات تمسّ الحق في الحياة، كقوانين "القتل الرحيم" أو ما يُسمى بـ"إنهاء الحياة الطوعية".
وأضاف أن هذه التوجهات، وإن كانت لا تزال في طور النقاش ببعض البرلمانات الغربية، إلا أن مجرد التفكير فيها يعد تحدياً خطيراً للمنظومة القيمية والقانونية العالمية، وستواجَه على الأرجح برفض دولي واسع إذا ما تم تقنينها، لما فيها من مساس خطير بجوهر الكرامة الإنسانية.
وأكد يونس أن الشرائع السماوية، وعلى رأسها الشريعة الإسلامية، وكذلك القوانين الوضعية والمواثيق الدولية، توافقت جميعاً على أن الحياة ليست ملكاً للفرد يتصرف فيها كيف يشاء، بل هي أمانة ومسؤولية وحق للمجتمع بأسره، مضيفاً أن كل مساس بهذا الحق، أياً كانت مبرراته، يفتح باباً خطيراً للتعدي على بقية الحقوق الأساسية ويهدد تماسك النظام الإنساني والقانوني العالمي برمته.
وشدّد على أن ما يُسمى "القتل الرحيم" ليس سوى مصطلح ملطّف لفعل يحمل في جوهره اعتداءً صريحاً على الحياة، وإن اختفى خلفه الخطاب الإنساني أو الطبي، لأن القبول به يعني التخلي عن المبدأ الجوهري الذي يقوم عليه القانون الدولي، وهو أن حماية الإنسان من الخطر –سواء كان خارجياً أو ذاتياً– مسؤولية أصيلة للدولة، وليست خياراً يمكن التفاوض عليه.