بعد حوار وطني وتعديلات تشريعية.. مصر تعيد تنظيم "الحبس الاحتياطي" وتقرّ تعويض المتضررين
عدالة مؤجلة أم إصلاح حقيقي؟
يعود الحبس الاحتياطي في مصر إلى الواجهة مجددًا، وسط إفراجات جديدة وتعديلات تشريعية، إذ عاد هذا الملف إلى دائرة الضوء بعد صدور دفعة جديدة من قرارات الإفراج، وذلك في أعقاب نحو أسبوعين من إقرار تعديلات تشريعية خفضت من مدد الحبس الاحتياطي، وألزمت الحكومة بتعويض المتضررين في حالات الاحتجاز الخاطئ.
وتُعد هذه الخطوات جزءًا من مسار إصلاحي واضح بدأ يتبلور خلال العام الأخير، من خلال قرارات قضائية وتشريعات برلمانية، وفي تصريح لـ"جسور بوست"، رأى أحد الحقوقيين أن هذه التحركات تُعد تطورًا إيجابيًا يعكس جدية الدولة في التعامل مع الملف، خاصة أنه كان محورًا رئيسيًا للنقاش خلال جلسات الحوار الوطني.
وفي 11 مايو الجاري، أصدر المستشار خالد ضياء، المحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا، قرارًا بإخلاء سبيل 55 متهمًا كانوا قيد الحبس الاحتياطي على ذمة عدد من القضايا التي تُجري النيابة التحقيق فيها، ووفقًا لوكالة أنباء الشرق الأوسط، ارتفع بذلك عدد المفرج عنهم خلال شهرين فقط إلى 105 متهمين.
وأكدت النيابة العامة أن تلك الإفراجات تأتي في إطار توجيهات النائب العام، المستشار محمد شوقي، بمراجعة الوضع القانوني للمحبوسين احتياطيًا بصورة دورية.
وفي 7 مايو الجاري، أعلن المحامي والحقوقي خالد المصري، عبر صفحته على "فيسبوك"، صدور قرارات مماثلة بالإفراج عن عشرات آخرين من المحبوسين احتياطيا.
كما شهد شهر سبتمبر 2024 قرارًا من النيابة العامة بالإفراج عن 151 محبوسًا احتياطيًا، استنادًا إلى توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، استجابةً لتوصيات الحوار الوطني بشأن الحبس الاحتياطي، وضمن التكليفات الصادرة من النائب العام للمراجعة المنتظمة لوضع المحبوسين.
وصرح كريم السقا، عضو لجنة العفو الرئاسي، آنذاك بأن القرار يُعد خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار الاجتماعي، وترسيخ العدالة، ونشر قيم التسامح وحقوق الإنسان، مؤكدًا أنه يعكس التزام الدولة بتطوير منظومة العدالة، بما يعزز الثقة بين المواطنين والحكومة.
وأشار السقا إلى أن تلك الإجراءات تهدف أيضًا إلى إعادة دمج المفرج عنهم في المجتمع، والحد من الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالحبس الاحتياطي.
وفي يوليو 2024، تم الإفراج عن 79 محبوسًا احتياطيًا، بحسب ما أعلنه المحامي طارق العوضي، عضو لجنة العفو الرئاسي. وقد وجّهت إدارة الحوار الوطني الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي على استجابته لمطالب القوى السياسية ومعالجته لإشكاليات الحبس الاحتياطي.
جهود تشريعية
وكان ملف الحبس الاحتياطي حاضرًا أيضًا في لقاء جمع بين محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، والممثل الأوروبي الخاص بحقوق الإنسان أولوف سكوج، في 5 نوفمبر 2024 بمقر الوزارة في القاهرة.
وخلال اللقاء، كشف فوزي أن مجلس النواب يناقش مشروع قانون جديد ينظم الحبس الاحتياطي، يحافظ على طبيعته كإجراء احترازي، ويحدد سقفًا زمنيًا له، مع ضمان بدائل قانونية وتعويضات مادية ومعنوية للمتضررين، بما يكفل احترام حقوق المتهمين.
شهد ملف الحبس الاحتياطي في مصر تطورًا تشريعيًا لافتًا، بعدما وافق مجلس النواب نهائيًا، في 29 أبريل الجاري، على مشروع قانون بإصدار قانون الإجراءات الجنائية، تضمن تعديلات جوهرية في هذا الملف.
ووفق بيان صادر عن وزارة الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، فإن التعديلات شملت إعادة تنظيم الحبس الاحتياطي بما يحافظ على طبيعته الاحترازية والوقائية، مؤكدة أن الهدف منه هو ضمان سلامة التحقيقات، مع تخفيض مدد الحبس الاحتياطي ووضع سقف زمني واضح لها، إلى جانب تنظيم آلية متكاملة للتعويض المادي والمعنوي عن الحبس الاحتياطي الخاطئ.
ونص القانون على ضرورة أن يكون أمر الحبس الاحتياطي مُسببًا، كما أقر نشر الأحكام النهائية بالبراءة أو أوامر حفظ الدعوى في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار على نفقة الدولة، وذلك ردًّا للاعتبار للمتضررين.
ويُعد هذا التوجه نقلة نوعية مقارنة بالقانون السابق الذي تعود نصوصه إلى نحو 74 عامًا، ومن أبرز التعديلات، تقليص مدة الحبس الاحتياطي في الجنح من 6 أشهر إلى 4 أشهر، وتخفيضها في الجنايات من 18 شهرًا إلى 12 شهرًا، وفي القضايا التي تصل عقوبتها إلى المؤبد أو الإعدام، تم تخفيضها من 24 شهرًا إلى 18 شهرًا.
استجابة رئاسية
وجاءت هذه التعديلات بعد تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أواخر أغسطس 2024، أهمية تخفيض الحدود القصوى للحبس الاحتياطي، استجابةً لتوصيات الحوار الوطني الذي تأسس عام 2022.
وشدد الرئيس، في بيان رسمي، على أن الحبس الاحتياطي يجب أن يظل إجراءً وقائيًا مرتبطًا بضرورات التحقيق، وليس عقوبة في حد ذاته، مع التأكيد على أهمية تعويض المتضررين ماديًا ومعنويًا في حال التعرض لحبس خاطئ.
وفي هذا السياق، قال الحقوقي المصري والدولي أيمن عقيل، رئيس مؤسسة ماعت للسلام والتنمية، في تصريح لـ"جسور بوست"، إن ملف الحبس الاحتياطي كان من أبرز المحاور المطروحة خلال جلسات الحوار الوطني، التي شارك فيها بنفسه، مشيرًا إلى أنه شخصيًا طالب بتقليص مدد الحبس والالتزام بضوابطه القانونية.
واعتبر عقيل أن قرارات الإفراج الأخيرة التي أصدرها النائب العام تُعد خطوات جيدة، داعيًا إلى الإكثار منها في إطار ضمانات الحبس الاحتياطي وتخفيف تداعياته.
وأشار إلى أن هذه التطورات تأتي ضمن تحركات الدولة نحو احترام حقوق الإنسان، خاصة الحقوق المدنية والسياسية، وتفعيل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2021.
وأضاف أن تلك الجهود تتزامن مع المراجعة الدورية لملف مصر الحقوقي في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، والتي تمت في يناير الماضي، ومن المقرر اعتماد نتائجها قريبًا، مؤكدًا أن الاستمرار في هذا المسار الإصلاحي أمر ضروري ومحل ترحيب.
وتُظهر التطورات الأخيرة في ملف الحبس الاحتياطي في مصر، سواء على مستوى التشريعات أو القرارات القضائية، أن الدولة تسعى ولو تدريجيًا إلى إعادة ضبط العلاقة بين الحقوق والحريات من جهة، ومتطلبات الأمن والعدالة من جهة أخرى.
فإقرار تعديلات قانونية تقلّص مدد الحبس الاحتياطي وتضمن تعويضًا عادلاً للمتضررين لا يُعد مجرد خطوة إجرائية، بل هو تعبير عن تحول في الرؤية تجاه مبدأ العدالة ذاتها، وتأكيد على أن الحبس الاحتياطي ليس عقوبة، بل تدبير احترازي مؤقت يجب أن يُستخدم وفق ضوابط صارمة.
كما أن التفاعل الرئاسي مع توصيات الحوار الوطني، يعكس استعدادًا سياسيًا للاستماع والاستجابة للمطالب المجتمعية والحقوقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحريات الأفراد وكرامتهم.
ولا يمكن إغفال أن الإفراجات المتكررة خلال الأشهر الأخيرة، والتوجيهات الصادرة للنائب العام، قد خفّفت من التكدس في السجون وأعادت الأمل لعشرات الأسر المصرية.
في المقابل، لا تزال التحديات قائمة، فإعمال نصوص القانون الجديد وضمان تطبيقه بصرامة، سيتطلب رقابة فعالة، وتدريبًا كافيًا لأجهزة إنفاذ القانون، وإرادة مستمرة لعدم التراجع عن المكتسبات الحقوقية.
كما أن المجتمع الحقوقي، والإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، مطالبون بلعب دور نشط في رصد وتقييم التنفيذ، وضمان عدم استخدام الحبس الاحتياطي كوسيلة ضغط أو عقوبة مقنّعة.
ومع استمرار جلسات الحوار الوطني، وتزايد الانفتاح السياسي والتشريعي تجاه قضايا الحريات العامة، يبقى الأمل معقودًا على أن تكون هذه الخطوات بداية لمسار طويل من الإصلاح في منظومة العدالة الجنائية برمتها، وليس فقط في باب الحبس الاحتياطي.