من حضن الحماية إلى حضيض الكراهية.. كيف تحول اللاجئون من ضحايا حرب إلى أهداف انتخابية؟

من حضن الحماية إلى حضيض الكراهية.. كيف تحول اللاجئون من ضحايا حرب إلى أهداف انتخابية؟

وسط العواصف السياسية المتلاطمة، والأزمات الإنسانية المتكررة التي تعصف بكوكبنا، يتكشف وجه آخر من وجوه الظلم، وجهٌ لا تلتقطه الكاميرات في ساحات المعارك، بل يتسلل بهدوء بين زوايا الحياة اليومية للناس إنه التمييز، ذاك الظل الثقيل الذي يلاحق الفئات الهشة حيثما حلّت.

في بولندا، البلد الذي احتضن أكثر من 1.5 مليون لاجئ أوكراني منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، تتبدل المشاعر اليوم إلى ما يشبه الجليد. 

بعد أن كانت المدن البولندية ترحب باللاجئين الأوكرانيين كإخوة، صارت تصدح فيها نبرات التذمر والنبذ، تقارير عدة، أبرزها ما نشرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تؤكد وقوع تحولات جذرية في النظرة العامة نحو اللاجئين، انعكست بوضوح في المدارس وأماكن العمل والمواصلات العامة. 

سفيتلانا، أم أوكرانية تبلغ من العمر 31 عامًا، تروي ألمًا يوميًا تسلل إلى حياة ابنتها، التي طالما أحبت مدرستها الجديدة في بولندا، قبل أن تتلقى طعنة كلمات من زميل لها: "عودي إلى أوكرانيا" كلمات كهذه، وإن بدت عابرة، فهي مؤشرات تنبئ بتحول عميق في النسيج الاجتماعي، تحول يطول الأطفال كما الكبار، ويفرض عليهم شعورًا قاسيًا بالاغتراب داخل أماكن كان من المفترض أن تكون آمنة.

علاقة وطيدة بين المزاج الشعبي وتقلبات المشهد السياسي حيث يتزامن تصاعد هذا الخطاب المعادي مع الحملات الانتخابية الرئاسية في بولندا، حيث لجأ بعض المرشحين إلى استغلال ملف اللاجئين أداةً للشد العاطفي والسياسي، من خلال وعود بتقليص الدعم وفرض قيود جديدة، ما غذى خطاب الكراهية القومي، وفتح الباب أمام الممارسات التمييزية لتجد لها غطاءً سياسياً.

هذه الديناميكية ليست جديدة في التاريخ الأوروبي، إذ طالما كانت فئات اللاجئين والمهاجرين أول من يدفع ثمن الانعطافات السياسية، حيث يُنظر إليهم كحِملٍ ثقيل أو تهديد لهوية الوطن. وقد رصدت منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" في تقارير سابقة، تصاعدًا في وتيرة جرائم الكراهية ضد اللاجئين في أوروبا منذ 2015، تزامنًا مع تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة، إذ وثّقت المفوضية الأوروبية في عام 2023 أكثر من 2,100 حادثة موثقة تتعلق بالتمييز العرقي والديني ضد اللاجئين والمهاجرين في دول الاتحاد الأوروبي، بزيادة قدرها 17% عن العام السابق (المصدر: وكالة الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي – FRA).

إنّ ما يجري اليوم لا يتعلق فقط بأوكرانيين في بولندا، بل هو حلقة في سلسلة أطول من التهميش الممنهج ضد المهاجرين واللاجئين في أنحاء العالم، حيث يتم شيطنتهم إعلاميًا، ويتم تحميلهم وزر الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية، وكأنهم هم سبب الخلل البنيوي، لا ضحاياه.

التمييز لا يُترجم دائمًا في صيغ عنف مباشر، بل أحيانًا يلبس ثوب الصمت، في الإهمال المؤسساتي، وفي غياب الدعم النفسي، وفي النظرات التي تقتلك كل صباح في المواصلات العامة، وفي أبواب العمل التي لا تفتح إلا بوجه من يحمل جوازًا "صحيحًا". التمييز يتجلى كذلك في المناهج المدرسية التي لا تدمج الآخر، وفي الإعلام الذي يكرّس الصور النمطية عن اللاجئ كمتطفل أو عالة.

وفي السياق ذاته، تشير بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين – “UNHCR” إلى أن أكثر من 108.4 مليون شخص كانوا نازحين قسرًا حول العالم حتى نهاية عام 2023، بسبب النزاعات أو الاضطهاد أو الكوارث البيئية، بزيادة ملحوظة عن العام الذي سبقه، ما يؤكد أن العالم يواجه موجة غير مسبوقة من التحركات البشرية، ويتطلب بالتالي مقاربات أكثر إنصافًا وشمولًا وعدالة.

وعلى الضفة الأخرى من هذه المعاناة، يتمادى عدد من الأنظمة السياسية في التلاعب بقضية اللجوء، إما عبر إغلاق الحدود أو عبر ممارسات قسرية كـ"الصد العنيف" أو "الاحتجاز الإداري"، وهي سياسات تتعارض مع القانون الدولي، خاصة المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تكفل حق الفرد في طلب اللجوء هربًا من الاضطهاد، وتكشف بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن أكثر من 108.4 مليون شخص كانوا نازحين قسريًا في العالم بحلول نهاية عام 2023، من بينهم 36.4 مليون لاجئ عبروا الحدود الدولية، فيما تشير تقارير "هيومن رايتس ووتش" إلى أن عدد الدول التي تمارس "الصد العنيف" قد ارتفع إلى 18 دولة حول العالم، بينها دول أوروبية رئيسية مثل اليونان، وهنغاريا، وكرواتيا.

ليست بولندا وحدها التي تشهد تراجعًا في حفاوة الاستقبال، ففي ألمانيا، تصاعدت أخيرًا الحركات الاحتجاجية المناهضة للهجرة على وقع الأزمة الاقتصادية وتضخم الأسعار الذي بلغ 6.9% في عام 2023، وهو الأعلى منذ أكثر من أربعة عقود، ما غذّى مشاعر السخط الشعبي، وقد شهد حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف صعودًا لافتًا، إذ أظهرت استطلاعات مؤسسة "Infratest dimap" أن الحزب بات يحظى بدعم 22% من الناخبين، وهو ما يضعه في المرتبة الثانية بعد الحزب الحاكم، ومن اللافت أن ألمانيا استقبلت وحدها خلال عام 2023 أكثر من 351 ألف طلب لجوء جديد، وفقًا للوكالة الاتحادية للهجرة واللاجئين (BAMF)، ما جعلها الدولة الأولى أوروبيًا من حيث عدد الطلبات المقدمة.

وفي فرنسا، حيث يشتد الجدل حول الهوية الوطنية والانتماء، تُظهر بيانات وزارة الداخلية الفرنسية أن عدد طلبات اللجوء ارتفع بنسبة 8.6% عام 2023، ليصل إلى أكثر من 137 ألف طلب، وفي الوقت ذاته، سُجّل ارتفاع في عدد قرارات الترحيل بنسبة 15% مقارنة بالعام الذي سبقه، ما يعكس تصعيدًا في السياسات الأمنية تجاه اللاجئين، وتكشف دراسة لمعهد "IFOP" أن 74% من الفرنسيين يرون أن الهجرة تمثل "مشكلة كبيرة" للبلاد، وهي النسبة العليا منذ عام 2010، ما يعكس تبدلاً جذرياً في المزاج العام، بالتوازي مع تصاعد الأحزاب اليمينية والشعبوية.

أما في البحر الأبيض المتوسط، فلا تزال مشاهد الغرق والإعادة القسرية تتكرر بمأساوية. وقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) أن عام 2023 شهد أكثر من 3,100 وفاة لمهاجرين غير نظاميين خلال محاولاتهم عبور البحر، بزيادة بنسبة 17% عن عام 2022، وتفيد تقارير منظمة "سي ووتش" الألمانية بأن السلطات الليبية أعادت قسرًا أكثر من 10,000 مهاجر إلى مراكز احتجاز وصفتها الأمم المتحدة بأنها “مواقع تعذيب ممنهج”، وفي الوقت نفسه، تشير تقارير "فرونتكس"، وكالة الحدود الأوروبية، إلى اعتراض أو إعادة أكثر من 141,000 مهاجر في طرق البحر المتوسط خلال 2023، رغم تحذيرات المنظمات الحقوقية من أن كثيرًا منهم يواجهون خطر الإعادة إلى دول تشهد نزاعات أو انتهاكات جسيمة.

خطورة هذا الانحدار في الخطاب لا تستهدف فقط اللاجئين، بل تهدد النسيج الديمقراطي نفسه، فحين يُقوَّض مبدأ الكرامة الإنسانية، يُفتح الباب أمام أشكال متعددة من التمييز العنصري والديني والثقافي، ويُختزل الإنسان إلى "جنسية" أو "ديانة" أو "حمولة اقتصادية"، وهو ما يتنافى تمامًا مع مبادئ العدالة والحرية، وفي هذا السياق، تظهر بيانات "الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية" (FRA) أن نحو 41% من اللاجئين في أوروبا تعرضوا للتمييز في الأشهر الاثني عشر الأخيرة، أغلبها في مواقف تتعلق بالعمل أو السكن أو الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية.

وفي الوقت الذي يحتاج فيه العالم إلى تضامن أكبر، تُمارس سياسات العزل والتجريم بحق أولئك الذين فُرض عليهم الهروب، والذين لا يحملون سوى حقائب من الخوف والأمل، وبينما ينشغل الساسة بحسابات الأصوات، تضيع أصوات اللاجئين في صخب الحملات، ويضيع معها أطفالٌ في مدارس باردة، وأمهاتٌ في طوابير انتظار لا تنتهي، وأحلامٌ بسيطة بحياة كريمة. وتُظهر بيانات "اليونيسف" أن أكثر من نصف الأطفال اللاجئين في أوروبا لا يتمتعون بإمكانية تعليم مستقر، في حين يعيش ثلثاهم تقريبًا في مساكن مؤقتة أو مزدحمة تفتقر إلى أبسط شروط الكرامة.

المؤسسات الحقوقية اليوم، كما الشعوب الحرة، مطالَبة بمواقف أكثر شجاعة ووضوحًا. لا يكفي التنديد العابر، بل يجب تفكيك البنى التمييزية في السياسات والتعليم والإعلام، على الاتحاد الأوروبي أن يعيد النظر في آليات توزيع اللاجئين وفي سياسات الاندماج، مستندًا إلى مقاربات حقوقية لا انتقائية، وتشير تقارير البرلمان الأوروبي إلى أن التمويل المخصص لبرامج الاندماج لم يتجاوز 2.4 مليار يورو من الميزانية العامة، وهو رقم غير كافٍ بالنظر إلى أكثر من 4.3 مليون لاجئ مسجلين في دول الاتحاد، كثير منهم يعاني من البطالة، العزلة، أو غياب الرعاية النفسية.

صعوبات في الاندماج

أكد محمد العروقي، رئيس تحرير موقع "أوكرانيا اليوم"، أن أزمة الهجرة إلى أوروبا تتجاوز البُعد الجغرافي نحو صراع عميق داخل البنية النفسية والثقافية لكل من المهاجر والمجتمعات المستقبِلة.

وقال في تصريحات لـ"جسور بوست" إن المهاجرين من الشرق الأوسط وإفريقيا وشرق آسيا يواجهون صعوبات هيكلية في الاندماج، تعود إلى الفجوة في الطباع والمنظومات القيمية والدينية. وأوضح أن التأقلم لا يرتبط فقط بتعلم اللغة، بل يتطلب إعادة تشكيل كاملة للمنظومة السلوكية، وهو أمر بالغ الصعوبة بعد سن الثلاثين.

وأشار العروقي إلى أن الأطفال دون العاشرة يندمجون بسرعة في النسيج المجتمعي الأوروبي، بينما تبقى الأجيال الأكبر حبيسة ثقافتها الأصلية، ما يولّد فجوة داخل العائلة نفسها ويؤدي إلى عزلة وتوترات قد تتخذ طابعًا عنصريًا.

وشدد على أن جهل الكثير من المهاجرين بحقوقهم القانونية يضعهم في موقع الضعف عند أي أزمة، مضيفًا أن غياب التأهيل القانوني يحوّلهم من ضحايا إلى متهمين، ولفت إلى أن "كثيرًا من المهاجرين يلجؤون إلى العمل مباشرة بدلًا من المؤسسات الحقوقية، ما يؤدي إلى ضياع الحقوق وتكريس الشعور بالتهميش".

وأوضح أن التمييز العنصري لا يزال قائمًا، مشيرًا إلى اختلاف المعاملة تجاه اللاجئين حسب الخلفية العرقية، حيث يتمتع اللاجئون الأوكرانيون بامتيازات قانونية غير متاحة لغيرهم، ما رسّخ مفهوم "اللاجئ من الدرجة الممتازة".

سلاح انتخابي في يد اليمين المتطرف

من جانبه، رأى الدكتور سيد مكاوي، الخبير في الشؤون الآسيوية بجامعة جواهر لال نهرو، أن أوروبا تعيش تحوّلًا خطِرًا يتمثل في صعود الأحزاب اليمينية التي تتبنى خطابًا معاديًا للمهاجرين كوسيلة للوصول إلى السلطة.

وقال لـ"جسور بوست" إن الشعار العنصري "عودوا إلى بلدكم" لم يعد استثناءً، بل أصبح مفتاحًا انتخابيًا يخترق حتى الأحزاب المحافظة. وأشار إلى تصريحات لنواب فرنسيين دعوا لترحيل المهاجرين إلى جزر نائية، وهي ممارسات تنتهك بوضوح اتفاقية جنيف لعام 1951 بشأن اللاجئين.

وأوضح أن الاتحاد الأوروبي، من خلال "فرونتكس"، يفرض إجراءات قمعية بحق اللاجئين القادمين من الجنوب، وسط صمت رسمي تجاه الكارثة الإنسانية في البحر المتوسط، الذي ابتلع أكثر من 27 ألف شخص خلال محاولاتهم للوصول إلى أوروبا.

ورأى أن هذا التحول يعكس تنكر الغرب لمبادئه الليبرالية بعد أن لم تعد تخدم مصالحه، خاصة مع صعود قوى جديدة كالصين. وأضاف: "أصبح المهاجر هو الجواب السهل لمشاكل معقدة، من الاقتصاد إلى البطالة، في خطاب شعبوي يضلل الرأي العام".

تمييز عنصري يطول اللاجئين وفق أصولهم

اتهم مكاوي بعض الدول الأوروبية بممارسة تمييز ممنهج بين اللاجئين وفق خلفياتهم العرقية. ولفت إلى أن اللاجئين الأوكرانيين حظوا باستقبال فوري ودعم مالي وتعليمي، في حين جوبه لاجئو سوريا وإفريقيا بالرفض والاحتجاز، بدعوى حماية الهوية المسيحية أو الأوروبية.

وأشار إلى أن التمييز يمتد حتى إلى الولايات المتحدة، حيث أعاد الرئيس دونالد ترامب إحياء سياسات هجرة عنصرية تعود للقرن الماضي، مثل مشروع "سور أمريكا العظيم"، وصولًا إلى استخدام قوانين مهجورة لترحيل لاجئين بسبب آرائهم السياسية.

وحذر مكاوي من أن هذا النهج يُقوّض القانون الدولي، ويزيد من تفاقم الأزمات الإنسانية، مشيرًا إلى أن بعض اللاجئين أقدموا على الانتحار بسبب الإحباط من الإجراءات البيروقراطية وصعوبة لمّ الشمل، لا سيما في ألمانيا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية