اللقاحات في مهب الريح.. تراجع تطعيم الأطفال يعيد "الأوبئة المنسية" إلى العالم
اللقاحات في مهب الريح.. تراجع تطعيم الأطفال يعيد "الأوبئة المنسية" إلى العالم
في خضم عالم يشهد تحولات متسارعة في مجالات الصحة العامة، تبرز ظاهرة تراجع معدلات التطعيم كأحد أكثر التحديات الصحية التي تواجه المجتمعات الحديثة، ليس فقط في الدول النامية، بل أيضاً في أعرق البلدان وأكثرها تقدماً.
فمع التقدم العلمي الهائل الذي أتاح تصنيع لقاحات فعالة ضد أمراض كانت تقتل أو تُشوه حياة الملايين، بدأنا نشهد تراجعاً مقلقاً في نسبة التلقيح، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام عودة أمراض كانت شبه منقرضة، مُعيدةً بذلك إلى الأذهان حقبة مريرة من المعاناة الصحية.
هذا التراجع في التطعيم، الذي تتغذى جذوره من موجات متعاقبة من المعلومات المضللة والشائعات التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قد أعاد إلى الواجهة أخطار تفشي أمراض معدية مثل الحصبة، التي عادت لتسجل أرقاماً مثيرة للقلق.
في كندا، على سبيل المثال، سجلت السلطات الصحية ما يقرب من 1800 إصابة بمرض الحصبة منذ مطلع عام 2025، وفقاً لما أعلنه راديو كندا يوم السبت، وهو أعلى رقم إصابات سنوي تسجله البلاد خلال ثلاثة عقود. هذا الرقم، على الرغم من كونه أقل من إجمالي حالات عام 1995 التي بلغت 2366 إصابة، فإنه يمثل تحولاً دراماتيكياً بعد سنوات من السيطرة شبه التامة على المرض.
فقد سبق وأن أعلنت كندا القضاء الرسمي على الحصبة في عام 1998، مع متوسط سنوي للإصابات لا يتجاوز 91 حالة خلال الفترة من 1998 إلى 2024. إلا أن الموجة الحالية تعيد إلى الذاكرة تفشي عام 2011 الذي شهد تسجيل 776 حالة في مقاطعة كيبيك فقط، ويعتقد الخبراء أن السبب الرئيسي لعودة الحصبة بهذا الشكل مرتبط بانخفاض معدلات التطعيم، إضافة إلى آثار جائحة كوفيد-19 التي أثرت بشكل مباشر في برامج التحصين الروتينية.
وتوضح البيانات والتقارير العالمية أن هذا السيناريو ليس محصوراً في كندا فقط، بل يتكرر في العديد من الدول المتقدمة التي كانت قد حققت نجاحات بارزة في مكافحة أمراض معدية عبر حملات تلقيح شاملة، وتعود الأسباب إلى موجة المعلومات المضللة التي طالت اللقاحات، والتي روجت لها مجموعات مناهضة التطعيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستغلة مخاوف عامة من سلامة اللقاحات، ما أدى إلى تراجع ملحوظ في ثقة الجمهور تجاه برامج التحصين. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن انخفاض معدلات التطعيم بنسبة 5% فقط في بعض المناطق يمكن أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في حالات تفشي الأمراض المعدية.
التطعيم الأساسي
وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إلى أن نحو 25 مليون طفل حول العالم لم يتلقوا التطعيم الأساسي في 2023، وهو رقم في ازدياد منذ تفشي جائحة كوفيد-19، الذي ألحق ضرراً كبيراً بالبنية التحتية الصحية، وأدى إلى تأجيل أو إلغاء برامج التلقيح في العديد من البلدان.
الحصبة، التي يُعرف عنها أنها من أكثر الأمراض المعدية شيوعاً، هي مرض فيروسي ينتقل عبر الرذاذ التنفسي الناتج عن السعال أو العطاس، وتُعد الحصبة من الأمراض التي يمكن الوقاية منها بسهولة عبر اللقاحات، لكنها مع ذلك لا تزال تمثل خطراً حقيقياً، خصوصاً على الأطفال دون سن الخامسة، والحوامل، والمرضى الذين يعانون ضعفاً في المناعة، وتبدأ أعراض الحصبة بعد فترة حضانة تمتد بين 10 إلى 14 يوماً من التعرض للفيروس، وتشمل حمى مرتفعة، وسعالاً جافاً، وسيلان الأنف، والتهاب العين، وبقع كوبليك البيضاء داخل الفم، يليها طفح جلدي أحمر ينتشر في الجسم، ورغم أن معظم الحالات تتحسن مع العلاج الداعم، فإن الحصبة قد تتطور لتصبح مهددة للحياة بسبب مضاعفات مثل التهاب الرئة، التهاب الدماغ، الإسهال الحاد، والعمى أو الصمم.
العودة المفاجئة لأمراض مثل الحصبة تعكس هشاشة الانتصارات الصحية التي تحققت بفضل التطعيم، وتكشف هشاشة المجتمعات أمام حملات التضليل التي تستهدف اللقاحات، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، سجلت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الحصبة، حيث تم الإبلاغ عن أكثر من 1300 حالة في عام 2024، وهو أعلى عدد منذ عام 1992، بعد سنوات من انخفاض مستمر، ويقول خبراء الصحة إن التفاوت في معدلات التلقيح بين المجتمعات المختلفة، إلى جانب الهجرة والسفر الدولي، يسهم بشكل كبير في انتشار المرض، وفي أوروبا، واجهت عدة دول موجات تفشٍ مشابهة، خصوصاً في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، حيث تراجعت معدلات التطعيم في بعض المناطق إلى أقل من 85%، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بأن تكون النسبة 95% على الأقل لضمان مناعة القطيع.
حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه الصحة العامة
من منظور حقوقي، تثير هذه الظاهرة نقاشات حادة حول حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه الصحة العامة، ففي حين أن الحق في الاختيار والحرية الشخصية محمي بالقوانين، فإن رفض التطعيم يشكل تهديداً مباشراً على المجتمع بأكمله، خاصة الفئات الضعيفة التي لا تستطيع تلقي اللقاحات لأسباب طبية، هنا يتقاطع الحق في الصحة مع واجب المسؤولية الاجتماعية، ويجب على الحكومات والمؤسسات الصحية العمل على تحقيق توازن بينهما من خلال التشريعات التوعوية، والتدخلات التعليمية، والرقابة الصارمة على نشر المعلومات الصحية.
تسلط الموجة الحالية من عودة الحصبة وغيرها من الأمراض المنقرضة سابقاً الضوء على تأثير جائحة كوفيد-19 ليس فقط في الصحة البدنية، بل في البنية التحتية الصحية نفسها. فقد أدت الجائحة إلى تعطيل برامج التحصين الروتينية في 68 دولة، وفق تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في أبريل 2025، ما أسهم في زيادة عدد الأطفال غير الملقحين، كما أن التدابير الوقائية المتشددة خلال الجائحة قلصت من فرص التعرض الطبيعي لبعض الأمراض، ما قد أضعف مناعة السكان. كل هذه العوامل متشابكة لتخلق بيئة خصبة لانتشار الأمراض المعدية من جديد.
تشير دراسات حديثة، منها تقرير نشره مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي في 2024، إلى أن نحو 27% من الأشخاص الذين يترددون في تلقي اللقاحات يعزون موقفهم إلى الخوف من الأعراض الجانبية المحتملة، فيما يعبر 22% عن شكوك حقيقية حول فعالية اللقاحات، و19% يعانون ضعف الثقة في الجهات الصحية، وفي استطلاع أجرته منظمة الصحة العالمية عام 2023 شمل أكثر من 30 دولة، تبين أن 35% من المستجيبين تعرضوا لمعلومات مضللة على وسائل التواصل الاجتماعي أثرت في قرارهم بالامتناع عن التطعيم.
وتلعب وسائل الإعلام دوراً محورياً، حيث وجد تقرير لمنظمة الصحة العالمية في 2025 أن حملات مكافحة المعلومات المغلوطة عبر التعاون مع منصات التواصل الاجتماعي أدت إلى زيادة نسب التطعيم بنسبة تصل إلى 15% في بعض المناطق.
أما السياسات الحكومية، فقد شهدت تطبيقاً واسعاً لقيود تلزم بالتطعيم للالتحاق بالمدارس، حيث أظهرت بيانات من الأمم المتحدة أن 40 دولة على الأقل فرضت هذا الشرط في 2024، وفي الوقت ذاته، ركزت برامج الدعم على تمكين الفئات الفقيرة، فوفقاً لتقارير اليونيسيف، زادت نسبة الأطفال الملقحين في المناطق الأقل دخلاً بنسبة 12% خلال عامين، بعد إطلاق حملات توعية تعتمد على لغة مبسطة ومعلومات علمية موثوقة.
يبقى التحدي الحقيقي في بناء ثقة مستدامة من خلال تحسين جودة اللقاحات وتطوير تقنيات حديثة لمتابعة التحصين، وهو ما تمثل فيه الاستثمارات البحثية زيادة بنسبة 20% في عام 2024 مقارنة بالسنوات السابقة، حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، لضمان مستقبل حي أكثر أماناً.
انخفاض مقلق في معدلات اللقاحات
حذّر خبراء في الصحة العامة ووبائيات الدواء من الانخفاض المقلق في معدلات تلقي اللقاحات حول العالم، مشيرين إلى أن هذه الظاهرة باتت تهدد بعودة أمراض معدية كاد العالم أن يقضي عليها.
ودعا الخبراء إلى تكثيف حملات التوعية الموجهة، وتفعيل دور المؤسسات العلمية والإعلامية والدينية في التصدي للمعلومات المضللة، مشددين على ضرورة إدراج مفاهيم الصحة العامة واللقاحات في المناهج الدراسية، والتعاون مع منصات التواصل الاجتماعي لمحاربة الأخبار الكاذبة.
من جانبه، أكد الدكتور عمرو منير، الأستاذ بجامعة سوهاج، أن اللقاحات شكّلت تحولًا ثوريًا في تاريخ الطب الحديث، وأسهمت في إنقاذ ملايين الأرواح من أوبئة قاتلة مثل الطاعون والجدري، لكنه أشار في تصريحاته لـ"جسور بوست" إلى أن بعض المجتمعات، خاصة في الدول النامية، ما زالت تواجه تحديات تتعلق بالثقة، والعوامل العقائدية، والنزاعات المسلحة، ما يعوق برامج التلقيح.
وأوضح منير أن جائحة "كوفيد-19" زادت من وتيرة التشكيك في اللقاحات، بسبب تسارع إنتاجها، وعدم مرورها بجميع المراحل السريرية المعتادة، وهو ما أعاد إلى الأذهان تجارب سابقة مثل لقاح H1N1 عام 2009.
وأكد أن بعض التيارات الفكرية المتطرفة تروج لفكرة "العودة إلى الطبيعة" ورفض التدخلات الطبية، ما يدفع بعض الفئات للاعتماد على المناعة الذاتية بدلاً من التطعيم، في ظل غياب التوعية.
واختتم تصريحه قائلاً: "المعركة ضد الأوبئة لم تنتهِ، لكنها تغيرت، أصبحت اليوم معركة وعي وثقة أكثر من كونها معركة علم فقط، وإذا لم نتصدى للجهل، فقد يعود ما ظنناه من الماضي ليهدد حاضرنا ومستقبلنا".
انحسار الثقة باللقاحات يُحيي أوبئة منسية
وقال الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الدواء وعلم انتشار الأوبئة بكلية الصيدلة جامعة عين شمس، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، إن جائحة "كوفيد-19" مثلت نقطة تحول مفصلية في علاقة المجتمعات باللقاحات، إذ أسهمت في تأجيج حركات مناهضة التطعيم، ومنحتها زخمًا غير مسبوق، خاصة في الولايات المتحدة، على عكس أوروبا التي ما زالت تشهد تأثيرًا محدودًا لتلك التيارات.
وأوضح عنان أن حالة الارتباك التي صاحبت إطلاق بعض اللقاحات، وما تلاها من سحب أو تحذيرات بشأنها – مثل لقاح "جونسون آند جونسون" و"أسترازينيكا" و"فايزر" – أدت إلى فقدان الثقة بين قطاعات واسعة من الناس، لافتًا إلى أن جعل اللقاحات اختيارية لاحقًا عمّق هذا التردد.
وأشار إلى أن سلوك الأفراد تجاه اللقاحات موسمي وتفاعلي بطبيعته، ويتراجع عند انحسار التهديد، مضيفًا أن الوصول إلى اللقاحات ما زال يمثل تحديًا كبيرًا في العديد من الدول النامية، خاصة في إفريقيا، بسبب هشاشة الأنظمة الصحية وصعوبة الوصول إلى الفئات المهمشة.
ولفت عنان إلى عودة أمراض مثل الحصبة والسعال الديكي وشلل الأطفال والدفتيريا في دول متقدمة، نتيجة انخفاض معدلات التغطية باللقاحات، مؤكدًا أن تحصين المجتمع ضد الحصبة -على سبيل المثال- يتطلب تغطية لا تقل عن 95%، وذكر أن مصر تُعد نموذجًا ناجحًا في هذا الإطار، حيث تصل نسبة التغطية إلى أكثر من 95% بفضل غياب الجماعات المناهضة المؤثرة.