غارات بلا مهبط للنجاة.. استهداف مطار صنعاء يحلّق فوق القوانين الدولية

غارات بلا مهبط للنجاة.. استهداف مطار صنعاء يحلّق فوق القوانين الدولية
مطار صنعاء الدولي بعد تعرضه للقصف

في 28 مايو الماضي، دمرت غارات جوية مطار صنعاء الدولي، في تصعيد عسكري خطِر أثار موجة تنديد دولي واسع، ودفع الأمم المتحدة إلى التحذير من تداعيات هذا الاستهداف الذي وصفته بانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. 

وأتى هذا التصعيد في وقت حساس يشهد فيه اليمن توتراً متصاعداً، وسط أوضاع إنسانية متردية وانهيار شبه تام للبنية التحتية، ما فاقم من معاناة ملايين اليمنيين العالقين في أتون حرب مستمرة منذ أكثر من 10 سنوات.

وأفادت وكالة "رويترز" نقلاً عن تصريحات أدلى بها المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوغاريك، الذي أدان بشدة استهداف البنية التحتية المدنية، ولا سيما مطار صنعاء، محذرًا من أن التصعيد العسكري الذي يشمل أيضاً استهداف ميليشيا الحوثيين لمطار بن غوريون في إسرائيل، من شأنه أن يفاقم هشاشة الأوضاع في اليمن والمنطقة بأسرها، ويعوق الجهود الإنسانية التي تعتمد بشكل كبير على هذا المرفق الحيوي.

وحولت الضربات الجوية مطار صنعاء إلى هدف عسكري مباشر، رغم كونه أحد آخر المنافذ الجوية المستخدمة في نقل المساعدات الإنسانية والمرضى والمسافرين المدنيين، خاصة أولئك المتوجهين لأداء مناسك الحج. 

وأسفرت إحدى الغارات عن تدمير طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية اليمنية، كانت مخصصة لنقل الركاب في رحلات إنسانية محدودة إلى الخارج، ما شكل صدمة إنسانية لآلاف اليمنيين الذين كانوا يعوّلون على هذه الرحلات في إنقاذ حياتهم أو تلبية احتياجاتهم الملحة.

وحرمت هذه الغارات آلاف اليمنيين من وسيلة السفر الوحيدة، خصوصاً في ظل إغلاق معظم المنافذ البرية والبحرية أو تعرّضها لأخطار أمنية ولوجستية، ما يضاعف من أعباء الحصار الاقتصادي المفروض على البلاد منذ سنوات، ويحول دون خروج المرضى لتلقي العلاج، أو سفر الطلاب لإكمال تعليمهم، أو المغتربين للعودة إلى أسرهم.

خسائر اقتصادية جسيمة

شلّت الغارات الجوية أحد أبرز المرافق الاقتصادية في اليمن، إذ يُعد مطار صنعاء الدولي ركيزة أساسية لقطاع النقل الجوي، الذي يُسهم بنسبة تُقدّر بـ12% من الناتج المحلي غير الرسمي، وفقاً لتقرير البنك الدولي الصادر في عام 2024، ويعمل في هذا القطاع أكثر من 50 ألف يمني في وظائف مباشرة وغير مباشرة، من طيارين، وفنيي صيانة، وموظفي أمن، وعمال خدمات.

وأوقفت الضربات الجوية سلاسل الإمداد الحيوية التي تمر عبر المطار، والتي تشمل شحنات الأدوية، والمساعدات الغذائية، والمستلزمات الطبية الطارئة، حيث تعتمد ما نسبته 70% من واردات البلاد الجوية على هذا المنفذ، بحسب تقديرات المنظمات الإنسانية. 

وزاد هذا من حدة التضخم الذي بلغ 30% في عام 2024، ورفع من أسعار السلع الأساسية، وأضعف قدرة المواطنين على توفير احتياجاتهم اليومية في بلد يبلغ فيه الفقر مستويات قياسية.

وتسببت الأضرار التي لحقت بالمطار في تفاقم الأزمات الاجتماعية والمعيشية، خصوصاً في محيط العاصمة صنعاء، حيث يعتمد ما يقرب من 30% من السكان على وظائف مرتبطة مباشرة أو غير مباشرة بالمطار، وأدى توقف هذه الأنشطة إلى ارتفاع معدلات البطالة، التي تجاوزت 50% في أوساط الشباب وفق تقارير الأمم المتحدة، ما ينذر بانفجار اجتماعي في ظل استمرار غياب البدائل وفرص التوظيف.

وفقدت آلاف الأسر مصدر رزقها الأساسي، في وقت يعاني فيه اليمن أزمات غذائية غير مسبوقة، حيث تشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أن أكثر من 17 مليون يمني يعيشون في حالة انعدام أمن غذائي، وأن نحو 23 مليون بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، من بينهم 12 مليون طفل مهددون بسوء تغذية حاد.

أثر إنساني كارثي 

عمّق استهداف المطار من معاناة الفئات الأكثر هشاشة، التي لا تملك وسائل بديلة للوصول إلى الغذاء أو الرعاية الصحية أو الخدمات الأساسية، وتُظهر دراسات الأمم المتحدة أن نحو 80% من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، في حين تعيش نصف هذه النسبة تقريباً في فقر مدقع، خصوصاً في مناطق الصراع التي تُعد الأكثر تضررًا من تدمير المرافق الحيوية.

وأغلق استهداف المطار الأبواب أمام المرضى والطلاب والحجاج، حيث بات من شبه المستحيل ترتيب رحلات طبية عاجلة، أو المشاركة في مناسك دينية، أو الحصول على فرصة تعليمية خارج البلاد، وأدى ذلك إلى تعميق التفاوت الطبقي، إذ لا يستطيع سوى الميسورين الوصول إلى حلول بديلة، ما يوسع الفجوة بين طبقات المجتمع ويعزز مناخ الاحتقان واليأس.

وجه استهداف مطار صنعاء ضربة مباشرة لمساعي إعادة الإعمار والاستقرار، في بلد دمرت الحرب فيه أكثر من 60% من البنية التحتية، وتُقدّر تكلفة إعادة بنائها بما يفوق 30 مليار دولار، ويُعد المطار أحد أعمدة الاقتصاد والخدمات في البلاد، ومن دونه تظل اليمن معزولة عن العالم الخارجي، محاصرة اقتصاديًا وسياسيًا، ما يطيل أمد النزاع ويعقّد فرص الحلول السلمية.

وعوّق هذا التصعيد جهود السلام، حيث يعد المطار عنصرًا أساسياً في أي تسوية سياسية محتملة، باعتباره رمزًا للسيادة الوطنية ومدخلًا حيويًا لأي نشاط دبلوماسي أو إنساني أو اقتصادي مستقبلي، ومن دون إعادة تأهيله وضمان أمنه، سيبقى اليمن رهينة للصراعات الإقليمية، والعقوبات، والانهيارات المتتالية.

دعوات أممية لحماية المدنيين

على صعيد متصل، شدد مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، الدبلوماسي السويدي هانس غروندبرغ، على خطورة الوضع الإنساني، خلال زيارته الأخيرة إلى سلطنة عمان، داعيًا إلى الإفراج الفوري عن جميع موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية المحتجزين، محذرًا من أن استمرار هذا الاحتجاز يعرقل العمل الإنساني ويعمّق الأزمة.

ودعا غروندبرغ الأطراف اليمنية إلى العودة للحوار السياسي، مؤكدًا أن الحل الوحيد لإنهاء المعاناة المتفاقمة هو التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، يعقبه عملية إعادة إعمار تشرف عليها جهات دولية وإقليمية. 

وناشد المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لحماية البنية التحتية المدنية وضمان احترام القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك تحييد المرافق الحيوية عن الاستهداف العسكري.

استهداف يعمّق عزلة اليمنيين

أكد أبوبكر باذيب، المدير التنفيذي للمركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية - أمستردام، أن الضربات الجوية المتكررة التي طالت مطار صنعاء الدولي، كانت متعددة المصادر، بدأت بتحالفات دولية ثم تبعتها ضربات أميركية وبريطانية مباشرة، وانتهت أخيرًا بضربات إسرائيلية مركّزة، وهذه الهجمات أخرجت المطار في كل مرة من الجاهزية وعوّقت خدماته المدنية الحيوية، ولا سيما الرحلات الوحيدة التي كان يسيّرها إلى العاصمة الأردنية عمّان بواقع رحلتين أسبوعيًا، والتي كانت تشكل شريانًا وحيدًا لليمنيين العالقين في مناطق سيطرة ميليشيا الحوثيين، خاصة المرضى والحجاج وأصحاب الحاجات الإنسانية.

وأشار باذيب، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن الضربة الأخيرة التي نفذتها إسرائيل جاءت عقب ضربات الحوثيين ضد إسرائيل دعماً لغزة، حيث تم استهداف ثلاث طائرات مدنية تابعة للخطوط الجوية اليمنية كانت في مطار صنعاء، وجرى تدميرها بالكامل، ورغم أن الضربة لم تُخرج المطار عن الخدمة الفنية، فإنها شلّت استخدامه لأغراض أمنية.

وأضاف أن المجتمع الدولي، ولا سيما الجهات التي تنفذ هذه الهجمات، تبرر استهداف المطار بكون ميليشيات الحوثي مصنفة كمنظمة إرهابية في عدة دول، معتبرة الاستهداف يدخل ضمن "الدفاع المشروع" ضد تهديدات تمس الأمن القومي والإقليمي والدولي، غير أن التساؤلات الكبرى، بحسب باذيب، تتعلق بمصداقية هذه المبررات، إذ إن الضربات لا تستهدف مواقع عسكرية واضحة، بل ما تبقى من البنية التحتية المدنية المهترئة أصلاً، في ظل عجز المجتمع الدولي عن التصدي لانتهاكات مماثلة ترتكب في غزة، وهو ما يكشف حجم الازدواجية والمعايير الانتقائية في المحاسبة.

وأوضح باذيب أن الحوثيين يتبعون استراتيجية عسكرية معقدة تجعل من الصعب استهداف مواقعهم الفعلية، حيث يستخدمون منصات إطلاق صواريخ متنقلة ومخفية في الجبال ومناطق مدنية، مدربين على ذلك من قبل خبراء إيرانيين، ما يعقد جهود التتبع والاستهداف الدقيق، ويُضعف الرواية الدولية المتعلقة بقصف المواقع العسكرية للحوثيين.

ولفت إلى أن موقف الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية لا يخلو من التناقض، إذ إنها كانت في السابق ترفع صوتها عندما تحاول الحكومة اليمنية والتحالف تحرير مناطق استراتيجية من قبضة الحوثيين، تحت شعارات إنسانية، في حين أن تلك المنظمات اليوم -وبعد استهداف البنية التحتية في مناطق الحوثيين- تكتفي ببيانات هزيلة الصياغة، لا ترقى إلى مستوى الانتهاكات، ويبدو أنها منسجمة مع التحولات في النظام الدولي الحالي، الذي بات يبرر ضرباته بذرائع متعلقة بمحاربة الإرهاب والدفاع عن النفس.

وحول الأثر الإنساني، أشار باذيب إلى أن هناك ثلاثة مطارات تعمل تحت سيطرة الحكومة الشرعية، في حين كان مطار صنعاء هو المنفذ الوحيد للمناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، والتي تضم ما يقارب 70% من السكان اليمنيين، أي إن استهدافه يعزل غالبية المواطنين عن العالم، ويعوق وصولهم إلى العلاج والسفر والتنقل. كما أشار إلى استهداف مطارات في الحديدة التي تُعد مراكز أساسية لاستقبال المساعدات الإنسانية، من أدوية ومواد غذائية مثل الدقيق.

وختم باذيب تصريحه بالتأكيد على أن استهداف المطارات المدنية يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، لكنه في ظل موازين القوى الحالية والمصالح المتداخلة، لا توجد أي آليات دولية فعالة لمحاسبة الجهات المنفذة، كما حذر من أن استمرار ميليشيا الحوثي في التوسع والاستغلال العسكري للبنية التحتية يفاقم الأزمة اليمنية، ويهدد -ليس فقط- الأمن الإنساني داخل اليمن، بل أيضًا الأمن القومي الإقليمي والملاحة الدولية برمتها.

إيقاف الرحلات يعمّق مأساة اليمن

قال المحلل الاقتصادي اليمني، ماجد الداعري، إن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمطار صنعاء الدولي وصل إلى استهداف رابع طائرة مدنية، وهي آخر طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية اليمنية، الناقل الوطني الوحيد، في خطوة تعني عملياً إيقاف كامل لرحلات الطيران من المطار، وحرمان أكثر من عشرين مليون يمني من التنقل، أغلبهم من المرضى والحجاج والمسافرين، من مغادرة البلاد. 

وأكد الداعري، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا الفعل يشكل جريمة حرب واضحة، حيث استهدف تدمير مؤسسة مدنية تخضع للحماية بموجب القانون الدولي، ما يعكس تصعيداً خطِراً في استهداف البنى التحتية الحيوية.

وأضاف أن التجارة الدولية في اليمن تعتمد بصورة رئيسية على الموانئ والنقل البحري، وليس النقل الجوي، وذلك بسبب محدودية الطائرات وشركات الشحن الجوي التجاري، ما يجعل استهداف المطار موجعاً أكثر على الجانب الإنساني والاجتماعي منه على حركة التجارة.

وأشار الداعري، إلى أن تدمير البنية التحتية للمؤسسات الخدمية يلقي بظلاله القاتمة على حياة المواطنين، حيث تتوسع رقعة المجاعة بشكل مريع نتيجة تعطّل فرص العمل لآلاف الموظفين الذين يفقدون مصدر دخلهم اليومي، وينضمون إلى صفوف الغالبية العظمى من الشعب اليمني الجائع. 

وأوضح أن توقف رحلات مطار صنعاء، الذي يعتمد عليه ملايين اليمنيين، يفاقم من معاناة الناس على الصعيدين الإنساني والاجتماعي، ويُحرم آلاف المرضى من السفر لتلقي العلاج، بالإضافة إلى حرمان الحجاج من أداء مناسكهم، ويعطل حرية التنقل والتواصل مع العالم الخارجي.

وأكد الداعري، أن فجوة التفاوت الطبقي في اليمن قد اتسعت بشكل هائل بفعل الحرب التي امتدت لأكثر من عقد، حيث يستحوذ أقل من عشرة في المائة من السكان، وهم المسؤولون وقادة وتجار الحرب، على أكثر من سبعين في المائة من موارد البلاد ومقدراتها في الشمال والجنوب على حد سواء. وتابع أن استمرار تدمير المطارات والموانئ والبنية التحتية يزيد من اتساع هذه الفجوة ويعمق مأساة الشعب اليمني، إذ يؤدي إلى تعزيز حالة التهميش والإفقار وقطع سبل الحياة الكريمة.

وأضاف أن استهداف البنية التحتية لأي دولة يعني استهداف الاقتصاد الوطني مباشرة، ما يضرب القدرات الاقتصادية ويؤدي إلى تأخير فرص التعافي الاقتصادي والسياسي معاً، مؤكدا أن نجاح أي تجربة سياسية أو توافق وطني مرهون بالقدرة على استعادة التعافي الاقتصادي، وعودة الموارد الوطنية لتعزيز الاستقرار السياسي والمجتمعي والأمني في البلاد.

ودعا الداعري المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والمؤسسات والمنظمات الدولية كافة، إلى تحمل مسؤولياتهم في دعم إعادة نهوض اليمن، وبناء الثقة بمؤسساته الوطنية. وشدد على ضرورة تبني خطة مارشال اقتصادية إنقاذية للاقتصاد اليمني، بمشاركة دول التحالف العربي والمجتمع الدولي والأصدقاء والمانحين، بهدف جمع أكبر احتياطي نقدي ممكن لإنقاذ قيمة صرف الريال اليمني من الانهيار المستمر، وتبني برامج تنموية ومشاريع استثمارية وبنى تحتية تؤدي إلى إعادة عجلة الاقتصاد الوطني.

وأكد أن هذه الخطوات لا تعد خياراً، بل ضرورة ملحة لضمان استقرار اليمن السياسي والاجتماعي، وتحقيق التنمية المستدامة التي تنقذ الشعب اليمني من دائرة الفقر والدمار.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية