هدنة بلا ضمانات.. إسرائيل وإيران بين الضربات المحسوبة والمكاسب الرمزية
هدنة بلا ضمانات.. إسرائيل وإيران بين الضربات المحسوبة والمكاسب الرمزية
في قراءة استراتيجية أقرب إلى رصد رقّاص الساعة، تبدو "الهدنة" الراهنة بين إسرائيل وإيران وليدة لهفوات وتقاطعات عابرة، أكثر من كونها اتفاقًا مكتمل الأسس، فإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 24 يونيو 2025 عن وقف إطلاق نار "شامل وكامل"، جاء بدعم من وساطة قطرية ومشاركة أمريكية مباشرة، ليشكل مفترقًا زمنياً أكثر منه نقطة تحول سياسية.
ومع غياب أي وثيقة رسمية ملزمة، أو ضمانات أمريكية واضحة لاستدامة الهدوء، تبدو الهدنة كمساحة رمادية قد تنهار مع أول هبّة توتر، لا بيان مشترك، ولا تفاصيل منشورة، ولا آليات واضحة للمساءلة. ما لدينا مجرد تصريح لترامب، يُقدَّم كإطار عام لوقف التصعيد، دون أدوات تنفيذ حقيقية.
ورغم أن ترامب اعتبر الاتفاق "منقذًا للشرق الأوسط من سنوات من الدمار"، إلا أن الشعور العام في المنطقة يشبه الوقوف على فتيل مشتعل، قابل للانفجار متى ما اختلت موازين الضغط الأميركي أو صعدت النبرة العسكرية.
معادلة ثلاثية في رقعة شطرنج إقليمية
بين الرماد والدبلوماسية، تتقاطع الولايات المتحدة، الخليج العربي، وإسرائيل في مشهد إقليمي معقّد تتحكم فيه المصالح أكثر من المواثيق. الهدنة، التي تبعت ضربات جوية استهدفت منشآت نووية إيرانية، ليست إلا سكونًا هشًا قد يسبق عاصفة جديدة. المعادلة الثلاثية القائمة على تبادل المصالح لا تشبه تحالفات تقليدية، بل تشبه شبكات نفوذ تتغير بمرونة حسب اللحظة السياسية.
واشنطن، من جهتها، تعيد ترسيخ حضورها كضامن إقليمي، لكن عبر نهج انتقائي وأدوات هجومية، فالضربات الأمريكية – الإسرائيلية على المنشآت الإيرانية أواخر مايو، استخدمت تقنيات متطورة من الجيل السادس للطائرات دون طيار وذخائر ذكية، في رسالة مزدوجة فحواها ردع طهران وإنعاش التحالف مع تل أبيب.
لكن دون اتفاق رسمي مكتوب أو شروط تهدئة واضحة، يبقى المشهد محكومًا بمنطق الضرورة اللحظية، لا باستراتيجية سلام طويلة الأمد، وحتى إعلان وزارة الدفاع الأمريكية أن "الضربات حققت أهدافها بنسبة 92%"، وفق تقرير مسرّب نشرته "واشنطن بوست"، لم يرافقه تصور سياسي يضمن تثبيت النتائج على الأرض.
قطر محور وساطة ذكي
وسط تعقيدات الملف، يبرز الدور القطري كمحور وساطة ذكي، يجيد اللعب على الحبال المشدودة. العلاقات المفتوحة مع طهران، واستضافة القواعد الأمريكية، منحت الدوحة هامش مناورة مؤثر، فقد أشارت وزارة الخارجية القطرية إلى أكثر من 7 اجتماعات دبلوماسية غير معلنة خلال 10 أيام فقط من مايو، لكنّ قطر تدرك جيدًا هشاشة المشهد، وتعرف أن أي تفاهم طويل الأمد يقتضي أكثر من نوايا حسنة.
الدوحة تحاول الحفاظ على توازن صعب: دعم التهدئة دون الانزلاق في لعبة المحاور، والاحتفاظ بدور محوري في إدارة الأزمات دون أن تدفع ثمنًا استراتيجيًا باهظًا.
إنجاز سياسي وأمني
على الجانب الإسرائيلي، يتعامل بنيامين نتنياهو مع الضربات على إيران كإنجاز مزدوج سياسي وأمني. استطلاع أجراه Panels Politics في 20 يونيو أظهر أن 83% من الإسرائيليين أيدوا موقفه، فيما عبّر 61% عن دعمهم لاستمرار العمليات، حتى لو أدت إلى حرب مفتوحة.
لكن التباينات داخل الحكومة الإسرائيلية، وخاصة من طرف الصقور كإيتمار بن غفير، تشير إلى خلافات بنيوية، بن غفير، في مقابلة بتاريخ 23 يونيو، وصف الهدنة بأنها "محطة مؤقتة"، محذرًا من أن الخضوع للضغوط الأمريكية والخليجية يُضعف الردع الإسرائيلي.
السيناريوهات المطروحة لتداعيات انهيار الهدنة متعددة، وكلها تحمل أثمانًا باهظة، أولها نزيف أمني قد يصيب البنى التحتية الحيوية في الخليج والمتوسط، خصوصًا في حال استهداف المنشآت النفطية أو الموانئ التجارية، وثانيها، احتمال توسع رقعة القتال إلى حرب متعددة الجبهات، تشمل لبنان وسوريا والعراق. أما ثالثها فهو التأثير السياسي والنفسي، خصوصًا في الداخل الإسرائيلي، حيث قد يحاول نتنياهو استغلال أي تصعيد لتعزيز شرعيته كـ"قائد حرب"، بينما في الواقع تتزايد الانتقادات الدولية لسلوكه المتهور.
"سلام الأمر الواقع" يخدم واشنطن وتل أبيب وطهران داخلياً
في تصريح تحليلي شامل، وصف الدكتور سيد مكاوي، أستاذ العلوم السياسية والخبير في الشؤون الآسيوية، الهدنة الحالية بين إيران وإسرائيل بأنها "اتفاق غير مكتمل وغير ملزم قانونيًا"، رغم توصيف وزير الدفاع الأمريكي لها بأنها اتفاق وقف إطلاق نار شامل، وأوضح أن الهدنة لا تستند إلى وثائق رسمية أو التزامات واضحة، ما يجعلها أشبه بـ"تفاهم ظرفي" لا يُبنى عليه استقرار دائم.
واعتبر مكاوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن العدوان الإسرائيلي ثم الأمريكي على إيران يُشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وكذلك لاتفاقية حظر الانتشار النووي، مشيرًا إلى أن هذه التجاوزات تحمل تداعيات خطيرة على الأمنين الإقليمي والدولي.
"قواعد اشتباك غير مكتوبة"
رغم غياب أي اتفاق رسمي، يرى مكاوي أن الأطراف الثلاثة: واشنطن، تل أبيب، وطهران، لديهم مصلحة واضحة في الحفاظ على حالة وقف إطلاق النار، فإيران لا تستهدف إسرائيل طالما لم تُستهدف، وهو ما يصفه بـ"قواعد اشتباك غير مكتوبة"، تتيح لكل طرف تسويق ما جرى كـ"نصر" للجبهة الداخلية، سواء عبر سردية الصمود، أو القوة العسكرية، أو القيادة الرشيدة.
وأوضح أنه في طهران، يروج النظام يروّج لصموده أمام تحالف عسكري كبير، رغم الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية، وفي تل أبيب، أعاد نتنياهو تقديم نفسه كقائد حازم ضرب العمق الإيراني، بالتنسيق مع واشنطن، وفي واشنطن، حصد ترامب إنجازًا دون خوض "حرب أبدية"، متمايزًا عن أسلافه.
ويرى مكاوي أن هذا التفاهم الضمني لا يلغي استمرار التوتر، خصوصًا في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني، ويرجّح استئناف المفاوضات قريبًا، بدفع أوروبي وتشجيع روسي–صيني، مع محاولات عربية لاحتواء التصعيد.
نتنياهو بين التهدئة والرهانات الداخلية
داخليًا، يرى مكاوي أن موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالغ التعقيد، إذ رفعت المواجهة مع إيران شعبيته مؤقتًا، لكنها لا تمنحه تفويضًا طويل الأمد، ويطرح مكاوي تساؤلًا محوريًا:
هل يستغل نتنياهو الهدنة مع إيران لوقف الحرب في غزة واستعادة الرهائن؟ أم يُواصل التصعيد لتحقيق مكاسب داخلية؟ والجواب -برأيه- مرهون بحسابات الأيام التسعين المقبلة، والتي قد تشهد دعوات لانتخابات مبكرة تقلب التوازنات.
الخليج: لا نية للتصعيد
يشدد مكاوي على أن دول الخليج لا ترغب بأي تصعيد عسكري، وأن الحرب الأخيرة أعادت التذكير بمقولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: "إما أمن للجميع، أو لا أمن لأحد،" وأكد أن أي نزاع شامل في المنطقة سيطول الجميع، دون استثناء، وهو ما يعزّز الحاجة إلى حل دبلوماسي للملف النووي الإيراني يراعي التوازنات الإقليمية ويحفظ الاستقرار.
وفي ختام حديثه، حذّر مكاوي من الازدواجية الغربية حيال الملف النووي، فبينما تسمح لإسرائيل بامتلاك سلاح نووي وتهديد المدن، تمنع إيران من تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، رغم كونها موقّعة على اتفاقية حظر الانتشار النووي، واعتبر أن هذا النهج يُهدد مستقبل استخدام الطاقة النووية في المنطقة، ويقوّض حق الدول في التقدم العلمي المشروع.
سيناريو "التصعيد المؤجل" حاضر دائماً
من جانبه، اعتبر المحلل السياسي الدولي سيبويه يوسف أن الهدنة القائمة لا تستند إلى أي إطار قانوني ملزم، في ظل غياب وثائق رسمية أو ضمانات أمريكية، ورأى أن ما يجري هو نموذج لـ"هدنة الأمر الواقع"، خدم -ولو جزئيًا- مصالح داخلية لواشنطن، طهران، وتل أبيب، دون أن يُحقق اختراقًا استراتيجيًا طويل الأمد.
وقال يوسف في تصريح لـ"جسور بوست"، إن إدارة ترامب حاولت تصدير صورة مزدوجة: الزعيم الذي تجرأ على قصف منشآت نووية، وفي الوقت ذاته، صانع سلام يجنّب العالم حربًا طويلة، وأضاف: "ما نشهده هو استمرار لأسلوب الابتزاز السياسي والاقتصادي الذي مارسته واشنطن سابقًا ضد دول الخليج".
واعتبر أن الضربات لم تهدف إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، بل إلى "تقليم أظافره"، مضيفًا أن: "بعض التقارير تشير إلى أن المنشآت أُصيبت، لكن البرنامج لم يُشلّ. تأخير التطوير النووي الإيراني هو مكسب مرحلي، وليس إنجازًا حاسمًا".
وفي المقابل، تحاول إيران إثبات أنها صامدة رغم القصف، وأن إسرائيل لا تملك قدرة المواجهة الشاملة دون دعم غربي مباشر.
مناورات شخصية لنتنياهو
يصف يوسف رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه خاض هذه الحرب بدافع شخصي، لتوحيد الداخل وتقديم نفسه كبطل قومي. وقال: "هو يُقاتل ليبقى. يحاول أن يصوغ مسيرته كقائد وطني، لكنه يصطدم بتراجع الدعم من واشنطن، التي لا تزال تتحكم في مسار المواجهة."
كما أشار إلى أن إسرائيل لا تتحرك عسكريًا بمعزل عن واشنطن، وأن أي تصعيد يخضع لتفاهمات واضحة مع البيت الأبيض.
خداع إعلامي وحرب نفسية
وكشف يوسف عن بُعد استخباراتي في المعركة، مشيرًا إلى أن إيران "لعبت لعبة ذكية" حين لم تنفِ سريعًا مقتل قادة بالحرس الثوري، كما أعلنت إسرائيل. وأضاف: “بعد انتهاء الضربات، تبيّن أن القادة أحياء. هذا ليس مجرد تضليل إعلامي، بل تلاعب في الحرب النفسية”.
يعتقد يوسف أن التفاهمات الحالية ناتجة عن ترتيبات غير معلنة. واستشهد بتصريحات منسوبة لترامب في دوائر مغلقة، مفادها أنه غطّى تكاليف الحملة العسكرية الأخيرة خلال ساعتين فقط، من السعودية وقطر والإمارات. ورأى أن هذا يؤكد أن واشنطن لا تتحرك بدافع أمني فقط، بل لأهداف اقتصادية مباشرة.
كما أشار إلى ما وصفه بـ"صفقة خفية" سُمِح بموجبها للصين باستيراد النفط الإيراني، مقابل تهدئة إيرانية محسوبة.
اختتم يوسف تحليله بالقول إن المشهد الإقليمي يراوح بين هدنة هشة وسلام شكلي فلا ضمانات، ولا مواثيق، فقط تفاهمات تحت الطاولة، ما لم تُوثّق وتُراقَب دوليًا، فإن الانفجار ليس احتمالًا، بل موعد مؤجل، على حد قوله.