الحق في الحياة.. 1.8 مليون وفاة سنوياً تكشف فجوة العدالة الصحية في أوروبا

الحق في الحياة.. 1.8 مليون وفاة سنوياً تكشف فجوة العدالة الصحية في أوروبا
فجوة العدالة الصحية في أوروبا

بينما يتباهى العالم بتطورات مذهلة في مجال الطب، وتتحسّن أدوات التشخيص وترتقي تقنيات العلاج، تقف منطقة أوروبا تحت ظل مأساة إنسانية صامتة: الأمراض غير المعدية تفتك بحياة الملايين سنويًا، دون صخب، ودون ما يكفي من المواجهة الجادة. ففي أحدث تقاريرها الصادر يوم الجمعة، أطلقت منظمة الصحة العالمية تحذيرًا صارخًا من تفاقم هذه الأزمة، مؤكدة أن هذه الأمراض لا تزال السبب الأول للوفاة والعجز في المنطقة الأوروبية، رغم ما تحقق من تقدم علمي.

تكشف المنظمة الأممية أن نحو 1.8 مليون شخص في أوروبا يفقدون حياتهم سنويًا بشكل مبكر، وهي وفيات كان من الممكن تجنبها بالكامل، لو اتُّخذت الإجراءات الوقائية والرعاية الطبية المناسبة في الوقت المناسب. هذه الأرقام لا تمثّل مجرد إحصاءات جافة، بل هي شواهد دامغة على إخفاق جماعي في السياسات الصحية العامة، وفي الاستجابة لمهددات معروفة، وقابلة للسيطرة. 

تغطي المنطقة الأوروبية لمنظمة الصحة العالمية 53 دولة، تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى المحيط الهادئ شرقًا، وتشمل دول الاتحاد الأوروبي وبلدان آسيا الوسطى. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 90% من الوفيات في هذه المنطقة تعود إلى الأمراض غير المعدية، ما يجعلها بلا منازع القاتل الأبرز لسكان القارة. تتقدم هذه القائمة القاتلة أمراض القلب والأوعية الدموية، يليها السرطان، ثم أمراض الجهاز التنفسي المزمنة، وأخيرًا داء السكري، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الألمانية عن بيان المنظمة.

السيطرة على عوامل الخطر الرئيسية

وتشير المنظمة إلى أن 20% من الرجال و10% من النساء في أوروبا يموتون قبل بلوغهم سن السبعين، وهي نسب تثير القلق، خاصة إذا علمنا أن 60% من هذه الوفيات يمكن الوقاية منها عبر السيطرة على عوامل الخطر الرئيسة، وعلى رأس هذه العوامل يأتي التدخين، الذي لا يزال يحصد أرواح الملايين، رغم حملات التوعية المستمرة. يليه تعاطي الكحول، الذي يعدّ سببًا مباشرًا ومؤثرًا في الإصابة بعدد من أنواع السرطان وأمراض الكبد والقلب.

أما ارتفاع ضغط الدم، فيظل واحدًا من أكثر القتلة الصامتين انتشارًا، إذ يصيب أكثر من 30% من البالغين في أوروبا، وغالبًا ما يُهمل علاجه أو يُكتشف في مراحل متأخرة، ليكون بوابة لحوادث قلبية أو سكتات دماغية، كذلك، تسهم الأنظمة الغذائية غير الصحية، التي تحتوي على نحو 70% من الاحتياجات اليومية من الملح والسكر في وجبة واحدة، في تفشي السمنة المفرطة، والتي يعاني منها أكثر من 59% من البالغين في أوروبا، خاصة من الفئات العمرية الشابة، ما يؤدي إلى ارتفاع حاد في معدلات السكري من النوع الثاني، الذي بات يصيب شخصًا من كل عشرة بالغين في المنطقة.

قلة النشاط البدني هي الأخرى ليست مسألة ترف أو كسل، بل أزمة صحية عامة. فـ36% من البالغين لا يمارسون الحد الأدنى من النشاط البدني الموصى به، ومع انتشار نمط الحياة المكتبي، وازدياد الاعتماد على وسائل النقل الخاصة، وتراجع ثقافة المشي اليومية، باتت السمنة، التي تضاعفت نسبها ثلاث مرات منذ عام 1975، من المشاهد المألوفة، ما زاد الطين بلّة. 

وإذا كانت هذه النسبة، أي 60% من الوفيات، ترتبط بعوامل يمكن الوقاية منها، فإن النسبة المتبقية -أي 40%- تعود إلى حالات كان يمكن علاجها أو تأخيرها لو جرى التشخيص مبكرًا. تشير تقارير المنظمة إلى أن نحو 800 ألف وفاة سنويًا في أوروبا يمكن تفاديها إذا توفر الحد الأدنى من خدمات الرعاية الأولية في الوقت المناسب، خاصة في المناطق الريفية، حيث تقلّ إمكانية الوصول إلى الأطباء المتخصصين بنسبة 40% مقارنة بالمدن الكبرى.

الإنفاق الصحي 

في هذا السياق، تسجّل المنظمة قلقًا بالغًا من محدودية الموارد المخصصة للوقاية، إذ لا تتجاوز 3% من الإنفاق الصحي الكلي في بعض الدول، مقارنة بما يُنفق على العلاج. فبدلًا من الاستثمار في حملات التوعية، والفحوصات المبكرة، تُضخ الميزانيات في علاج أمراض كان بالإمكان تفاديها، ما يجعل الكلفة الاقتصادية للأمراض غير المعدية تصل إلى أكثر من 700 مليار يورو سنويًا في أوروبا وحدها. 

المفارقة أن هذه الأزمة لا ترتبط فقط بالدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط، بل تمتد لتشمل حتى بعض الدول الغنية مثل ألمانيا أو فرنسا، حيث تُظهر البيانات أن الفجوة في التوزيع الصحي لا تزال حادة. فالأشخاص من ذوي التحصيل التعليمي المنخفض هم أكثر عرضة بنسبة 70% للإصابة بالأمراض غير المعدية مقارنة بغيرهم، كما أن دخل الأسرة يؤثر مباشرة في فرص تلقي العلاج المناسب في الوقت المناسب.

وهنا يتجلى البعد الحقوقي للمسألة، إذ إن الحق في الصحة لم يعد متاحًا للجميع على قدم المساواة. ففي أوروبا، التي تعد من أغنى مناطق العالم، لا يزال نحو 15 مليون شخص يواجهون صعوبات في الحصول على خدمات صحية أساسية، ما يتطلب مراجعة شاملة للسياسات الصحية، بحيث لا يظل الوقاية والعلاج امتيازًا لمن يملك المال أو يسكن في الحواضر الكبرى. 

توصي منظمة الصحة العالمية بمجموعة من التدخلات الفعالة، من بينها فرض ضرائب إضافية على التبغ والكحول، ما قد يخفض الاستهلاك بنسبة 20%، وتوفير بدائل غذائية صحية بأسعار مدعومة، وإطلاق برامج وطنية للنشاط البدني تستهدف المدارس وأماكن العمل، وتعزيز الكشف المبكر، الذي يمكن أن يقلل الوفيات بنسبة تصل إلى 30%، إضافة إلى تدريب الكوادر الصحية، التي تشير التقديرات إلى أنها تعاني من نقص يقدر بـ2.6 مليون موظف في الإقليم الأوروبي.

وتضيف المنظمة أن أوروبا لا تفتقر إلى المعرفة، ولا إلى الموارد، بل إلى الإرادة السياسية والالتزام طويل الأمد. فما من سبب يجعل الوفاة قبل السبعين مصيرًا محتومًا، خاصة أن الأدوات الوقائية متوفرة، كما أن تعميم العدالة الصحية قد يرفع متوسط العمر المتوقع بنحو 5 سنوات في بعض الدول.

لكن هناك أيضًا مسؤولية فردية لا يمكن تجاهلها. فأنماط الحياة تبدأ من اختياراتنا اليومية: ما نأكله، كم نتحرك، كيف ندير توترنا، وهل نخضع للفحوصات. إذ تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يلتزمون بأسلوب حياة صحي تقل لديهم فرص الوفاة المبكرة بنسبة 60% مقارنة بمن يهملون صحتهم.

وفي هذا السياق، تعاني أوروبا أيضًا من انتشار المعلومات الخاطئة، حيث تظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من 25% من السكان لا يثقون بالتوصيات الطبية الرسمية، ما يزيد من مقاومة بعض الفئات للقاحات أو تجاهلهم عوامل الخطر. وهنا تلعب وسائل الإعلام، والمدارس، ومؤسسات المجتمع المدني دورًا حيويًا في بناء ثقافة صحية تستند إلى المعرفة العلمية، لا الشائعات.

الأمراض الصامتة تهدد رفاه المجتمعات الحديثة

قال الدكتور عمرو منير، أستاذ الطب بجامعة سوهاج، إن المجتمعات المتقدمة، رغم تمتعها برفاهية مادية وخدمات صحية متطورة، تُعاني من أنماط سلوكية غير صحية مثل الخمول الجسدي، التدخين، الكحول، والإفراط في تناول الوجبات السريعة، وهي عوامل تُمهّد الطريق لأمراض مزمنة مثل: أمراض القلب والشرايين، ارتفاع ضغط الدم، داء السكري، الأورام السرطانية.

وأضاف في تصريح لـ"جسور بوست" أن “الخطير في هذه الأمراض هو طابعها الصامت، إذ لا تظهر أعراضها إلا في مراحل متأخرة، ما يصعّب العلاج ويزيد من كلفته”.

عبء اقتصادي وصحي متزايد

تُعدّ هذه الأمراض، بحسب منظمة الصحة العالمية، من أكثر التحديات الصحية إلحاحًا، إذ تمثل سببًا رئيسًا في الوفيات عالمياً، كما تُشكّل ضغطًا كبيرًا على الأنظمة الصحية، خصوصًا في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية، وارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم، والمخلفات الصحية لجائحة كوفيد-19.

وأشار الدكتور منير إلى أن هذه التكاليف لا تقتصر على العلاج فقط، بل تشمل فقدان الإنتاجية، وزيادة الإعاقات، واحتياجات الرعاية طويلة الأمد، ما يستنزف ميزانيات الدول ويؤثر سلبًا في جودة الحياة.

هشاشة النظم الصحية تحت ضغط الهجرة والأزمات

مع موجات الهجرة من مناطق النزاعات، مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام معضلة صحية مزدوجة: مواجهة الأمراض غير المعدية، وتقديم الرعاية للوافدين الذين يفتقر كثير منهم إلى سجلات طبية أو تأمين صحي، ما يُصعّب جهود التشخيص والمتابعة والعلاج.

"الوقاية تمثل درع الحماية الأول"، بهذه العبارة شدد الدكتور منير على ضرورة التحول من النهج العلاجي إلى الوقائي، عبر:

تعزيز الفحوصات المبكرة، واعتماد برامج صحية دورية، والترويج لسلوك صحي متوازن، وتبنّي سياسات تقلل الاعتماد على الأغذية المصنعة.

سلطان: لا نحتاج غرف عناية بل وعي غذائي وحركي

من جهته، حذّر الدكتور حيدر سلطان، مدير المجالس الطبية، من أن "الانفصال المتزايد عن الطبيعة" في النظام الغذائي الحديث يُعدّ أحد أبرز مسببات هذه الأمراض.

وقال لـ"جسور بوست": "عندما نفتقد التوازن بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، نضع أجسادنا في مواجهة مباشرة مع أمراض كان يمكن تجنّبها".

وأوضح أن انتشار الأطعمة المصنعة، والمشروبات الغازية، ومكسبات الطعم، جعل فئة الشباب على وجه الخصوص أكثر عرضة لمشكلات صحية مزمنة في سن مبكر.

السياسات الوقائية... الحلقة المفقودة

انتقد سلطان ما وصفه بـ"الانحياز العالمي للبرامج العلاجية"، على حساب الوقاية، معتبرًا أن هذه السياسات تخضع في كثير من الأحيان لاعتبارات اقتصادية، تصب في مصلحة الصناعات الدوائية والغذائية الكبرى.

ودعا إلى أن تتحول النظم الصحية إلى أنظمة استباقية، تُركز على التثقيف الصحي، تعديل السلوك، الكشف المبكر، وخلق بيئات تحفز الناس على النشاط والحركة.

وقال:"الرعاية الحقيقية لا تبدأ من غرف العناية المركزة، بل من طبق الطعام على المائدة، ومن نمط الحياة اليومي".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية