مع انطلاق نظام المراقبة.. تسجيل المسافرين بيومترياً يثير جدلاً حول الخصوصية في أوروبا
مع انطلاق نظام المراقبة.. تسجيل المسافرين بيومترياً يثير جدلاً حول الخصوصية في أوروبا
تستعد أوروبا لدخول مرحلة جديدة من إدارة الحدود، مع بدء تطبيق نظام الضوابط البيومترية (EES)، الذي ينطلق تدريجياً ابتداء من 12 أكتوبر الجاري، ويهدف النظام الذي طال انتظاره منذ سنوات، إلى استبدال الأختام اليدوية على جوازات السفر بآلية رقمية متطورة، تسجل الاسم، ورقم الجواز، وبصمات الأصابع، والصورة البيومترية لكل مسافر من خارج الاتحاد الأوروبي.
هذه الخطوة، التي تندرج ضمن مشروع "الحدود الذكية" الأوروبي، تمثل تحولاً عميقاً في طريقة مراقبة حركة الأشخاص داخل وخارج منطقة شنغن وفق "مهاجر نيوز"، لكنها تثير في المقابل نقاشاً واسعاً حول قضايا الخصوصية والتمييز وحرية التنقل.
ربط الأمن بالتكنولوجيا
وفقاً للمفوضية الأوروبية، يهدف النظام الجديد إلى تحسين أمن الحدود ومكافحة الهجرة غير النظامية، من خلال "الكشف المنهجي عن الأشخاص الذين تجاوزوا مدة الإقامة المسموح بها، والتصدي لتزوير الوثائق وسرقة الهوية".
وسيكون نظام الدخول والخروج قاعدة بيانات مشتركة بين جميع دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة شنغن، حيث تُخزَّن المعلومات البيومترية للمسافرين من الدول الثالثة أي غير المنتمين للاتحاد الأوروبي لفترة تصل إلى خمس سنوات.
بذلك، يتحول الختم اليدوي التقليدي إلى سجل إلكتروني دقيق، يُمكِّن السلطات من تتبع تحركات الأشخاص بدقة أكبر، ومعرفة من تجاوز مدة الإقامة القانونية، أو من دخل دون إذن مشروع.
فرنسا في الواجهة
تُعد فرنسا من أوائل الدول التي ستبدأ بتنفيذ النظام الجديد، حيث أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أن 120 موقعاً حدودياً، تشمل الموانئ والمطارات والمعابر البرية، ستُدرج في المرحلة الأولى، مع تطبيق تدريجي خلال الأشهر الستة المقبلة.
وأوضحت الوزارة أن العملية ستبدأ بـ"نطاق محدود"، يشمل عدداً قليلاً من المسافرين، لتجريب النظام وضمان عدم حدوث تعطيلات كبرى في حركة السفر.
لكن رغم التحضيرات، أقرت السلطات الفرنسية بأن زمن الانتظار عند المعابر الحدودية سيزداد، لا سيما في ظل استقبال فرنسا أكثر من 100 مليون زائر أجنبي عام 2024.
وحذّرت الوزارة من أنه "إذا طال وقت الانتظار بشكل كبير، فقد يتم تعليق العمل بالنظام مؤقتاً والعودة إلى الضوابط التقليدية".
التكنولوجيا والبيروقراطية
تؤكد المفوضية الأوروبية أن النظام صُمّم لتسهيل العبور من خلال أجهزة رقمية متطورة تتيح للمسافرين تسجيل بياناتهم ذاتياً قبل المرور عبر نقاط التفتيش.
في المطارات الكبرى مثل باريس، فرانكفورت، ومدريد، ستُثبت شاشات ولوحات رقمية تتيح إدخال المعلومات وتسجيل البصمات، بينما ستُستخدم الكاميرات البيومترية لالتقاط صور الوجوه بشكل آلي.
غير أن هذه التقنية تطرح تحديات لوجستية وأمنية في الوقت نفسه، ففي نقاط العبور ذات الكثافة العالية مثل نفق المانش ومحطات يوروستار، ستُجرى المراقبة قبل المغادرة من بريطانيا نحو أوروبا، ما قد يؤدي إلى ازدحام وتأخير الرحلات.
وقد أبدت شركات النقل الكبرى، مثل يوروتونيل ويوروستار، قلقها من تأثير الإجراءات الجديدة على انسيابية السفر، رغم تأكيدها استعدادها التقني للتنفيذ.
بريطانيا المتأثرة رغم خروجها من الاتحاد
من المفارقات أن النظام الجديد سيؤثر بشكل مباشر على المواطنين البريطانيين، رغم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
فكل بريطاني يسافر إلى أوروبا سيُعتبر من مواطني الدول الثالثة، وبالتالي سيخضع لتسجيل بياناته البيومترية عند كل دخول أو خروج من منطقة شنغن.
هذه الخطوة قد تُعقد حركة السفر عبر القنوات التقليدية التي كانت قائمة قبل بريكست، وتزيد من البيروقراطية على الحدود الأوروبية-البريطانية، خصوصاً في ظل رحلات العمل والسياحة المتبادلة المكثفة بين الجانبين.
الأمن مقابل الخصوصية
في الوقت الذي تؤكد فيه بروكسل أن الهدف من النظام هو تعزيز الأمان وكفاءة الإدارة الحدودية، يرى المدافعون عن الحريات الرقمية ومنظمات حقوق الإنسان أن المشروع يفتح الباب أمام توسع غير مسبوق في جمع البيانات الشخصية وتخزينها.
وتخشى مؤسسات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"إي دي إف" الأوروبية (المنظمة المعنية بالحقوق الرقمية) من أن يتحول النظام إلى أداة مراقبة جماعية تستهدف فئات معينة من المسافرين، خصوصاً من إفريقيا والشرق الأوسط.
وتحذر هذه المنظمات من التطبيع مع الرقابة، معتبرة أن تسجيل البصمات والصور لكل مسافر يحوّل الجميع إلى موضع اشتباه مسبق.
مخاوف من إساءة الاستخدام
تؤكد المفوضية الأوروبية أن البيانات ستُخزَّن لمدة خمس سنوات، وستُتاح لسلطات الأمن والشرطة والدرك والمحافظات في دول الاتحاد الأوروبي.
لكنّ المراقبين يحذرون من غياب آليات رقابة فعالة على استخدام تلك المعلومات، خصوصاً في ظل تجارب سابقة كشفت عن تسربات أو اختراقات لقواعد بيانات حكومية.
وتشير تقارير تقنية إلى أن حجم البيانات المتوقع أن يجمعه النظام خلال العام الأول وحده قد يتجاوز عدة مليارات من السجلات، ما يجعل إدارة الأمان الرقمي تحدياً هائلاً يتجاوز حدود كل دولة على حدة.
نحو حدود ذكية أم أكثر انغلاقاً؟
في البيان الصادر عن المفوضية الأوروبية، جاء أن إطلاق نظام ESS يمثل خطوة حاسمة نحو بناء حدود أوروبية أكثر أماناً وكفاءة، غير أن بعض الباحثين يرون أن أوروبا، بهذا القانون، تتجه نحو بناء حدود رقمية محصّنة، لكنها أيضاً أكثر برودة وإنسانية أقل، فبينما تتطور التكنولوجيا، تتراجع فكرة العبور الحر التي كانت من أبرز مكتسبات الاتحاد الأوروبي منذ تأسيس منطقة شنغن في التسعينيات.
تجربة انتقالية
من المقرر أن يستمر التنفيذ التجريبي للنظام على مدى ستة أشهر، قبل أن يُعمَّم على جميع المعابر الحدودية في أوروبا بحلول منتصف عام 2026.
وخلال هذه الفترة، ستختبر المفوضية الأوروبية فعالية النظام من حيث الدقة والسرعة، ومدى توافقه مع قوانين حماية البيانات الأوروبية (GDPR).
وفي حال أثبت النظام فعاليته، سيكون الاتحاد الأوروبي قد دشّن أول قاعدة بيانات بيومترية عابرة للحدود بهذا الحجم في العالم، تمثل نموذجاً جديداً في إدارة الهجرة والسفر والأمن، لكنه أيضاً نموذجاً يثير نقاشاً عميقاً حول الحدود بين الحرية والأمان.
نحو اتحاد أوروبي أكثر رقمنة
تأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية أوروبية أوسع لتوحيد أنظمة المعلومات الأمنية والمتعلقة بالهجرة، مثل نظام ETIAS (التصريح المسبق للسفر)، ونظام Eurodac لتسجيل طالبي اللجوء.
وتسعى بروكسل من خلال هذه الأدوات إلى بناء شبكة متكاملة تربط بين الشرطة، وسلطات الهجرة، والأمن القومي، في محاولة لضبط حركة الأشخاص في القارة بشكل أكثر فاعلية، لكن الثمن، وفق منظمات المجتمع المدني، قد يكون باهظاً من حيث الحق في الخصوصية، وحماية البيانات، وحرية التنقل وهي القيم التي لطالما شكّلت أساس المشروع الأوروبي ذاته.