بيئة العمل الآمنة.. قضية حقوقية تؤرق حياة ملايين العمال المصريين
بيئة العمل الآمنة.. قضية حقوقية تؤرق حياة ملايين العمال المصريين
في جلسة حوارية نظمها المجلس القومي لحقوق الإنسان بالقاهرة أخيراً، احتدم النقاش حول قضايا العمل اللائق وبيئة العمل الآمنة، وسط تأكيدات بأن كرامة الإنسان تبدأ من مكان عمله، وأن العامل المصري ما زال يواجه تحديات معقدة، أبرزها ظروف العمل الخطرة، الأجور المتدنية، وضعف الحماية الاجتماعية.
ورغم ما أُنجز على مستوى التشريعات في السنوات الأخيرة، يتفق الحقوقيون على أن التطبيق على الأرض ما زال يواجه عراقيل حقيقية، تُعطل الوصول إلى بيئة عمل تحترم الإنسان وتضمن أمنه المادي والنفسي.
أرقام تكشف الفجوة
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يصل عدد قوة العمل في مصر إلى نحو 31 مليون شخص حتى منتصف 2025، يعمل نحو 40% منهم في القطاع غير الرسمي الذي يفتقر غالبًا لأبسط معايير السلامة المهنية والتأمين الصحي.
وفي تقرير أصدرته منظمة العمل الدولية نهاية 2024، سُجلت أكثر من 13 ألف حادث عمل في مصر خلال عام واحد، بينها نحو 470 حالة وفاة، معظمها في قطاعات الصناعة والإنشاءات والزراعة، في حين تشير تقديرات منظمات حقوقية محلية إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أكبر بكثير بسبب نقص آليات التبليغ وضعف الرقابة.
العمل اللائق
يرتكز مفهوم العمل اللائق وفق تعريف منظمة العمل الدولية على أربعة أبعاد: خلق فرص عمل، ضمان الحقوق في العمل، توسيع الحماية الاجتماعية، وتعزيز الحوار الاجتماعي. لكن واقع الحال في مصر يكشف فجوة واسعة بين النصوص القانونية والممارسة اليومية.
ففي الجلسة الأخيرة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، شدد الحقوقيون على ضرورة تعزيز أدوار النقابات المستقلة، وتحديث أدوات التفتيش والسلامة المهنية، وتفعيل شكاوى العمال دون خوف من التمييز أو الفصل التعسفي.
"لا يمكن الحديث عن عمل لائق في ظل انتهاكات متكررة لحقوق العمال في بيئة العمل"، هكذا تقول مروة عز الدين، باحثة في قضايا العمال، مضيفة أن هناك مصانع لا تطبق الحد الأدنى للأجور، وأخرى تجبر العمال على العمل لساعات إضافية دون مقابل، فضلاً عن حرمانهم من الإجازات المرضية والمستحقة قانونًا.
نماذج حديثة تكشف الواقع
قبل أشهر فقط، وثّق المرصد العمالي المصري حادثة وفاة ثلاثة عمال إثر انهيار سقف ورشة في منطقة العاشر من رمضان، بسبب غياب تدابير السلامة، وفي حادثة أخرى بمدينة 6 أكتوبر، أصيب عشرة عمال بحروق بالغة نتيجة انفجار غلاية في مصنع للكيماويات.
أما في قطاع البناء، الأكثر خطورة، فتتكرر حوادث السقوط بسبب غياب أحزمة الأمان والتدريب الكافي.
وعرفت مصر بدايات التنظيم النقابي منذ أوائل القرن العشرين، وبلغت ذروتها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مع قطاع عام قوي، لكن التحولات الاقتصادية منذ السبعينيات، والخصخصة وتقليص دور الدولة، قلصت كثيرًا من نفوذ النقابات.
وفي 2017، صدر قانون النقابات العمالية الجديد الذي سعى لتقنين العمل النقابي المستقل، لكن منظمات حقوقية مثل الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان انتقدت ما وصفته بـ"قيود مفرطة" على تأسيس النقابات الجديدة، بما يحد من حرية التنظيم.
خريطة طريق مقترَحة
يؤكد المجلس القومي لحقوق الإنسان، في تقاريره الأخيرة، أن العمل اللائق عنصر جوهري في خطة الدولة لتحقيق التنمية المستدامة 2030، وشدد أعضاء المجلس خلال المناقشات على ضرورة تحديث أدوات الرقابة والتفتيش لتشمل القطاع غير الرسمي، وإنشاء صندوق لدعم السلامة المهنية وتمويل برامج تدريب، وحماية المبلغين عن انتهاكات العمل، ورفع وعي العمال وأصحاب العمل بمعايير الصحة والسلامة.
ودعا المجلس أيضًا لتعاون أوسع مع المجتمع المدني والقطاع الخاص لتطبيق المعايير الدولية الخاصة بالعمل الآمن.
وتؤكد وزارة القوى العاملة أنها كثّفت في العامين الأخيرين حملات التفتيش لتطبيق اشتراطات السلامة، حيث بلغ عدد الحملات نحو 17 ألف حملة خلال 2024، لكنها تعترف بأن القطاع غير الرسمي يظل التحدي الأكبر.
كما تشير الوزارة إلى أن برنامج الإصلاح الاقتصادي ساعد على خفض معدل البطالة إلى نحو 6.8% بنهاية 2024، لكن السؤال يظل هو.. هل يكفي توسيع فرص العمل إذا بقيت تلك الفرص في بيئات غير آمنة وبأجور متدنية؟
شهادات تكشف الخوف والصمت
في تقرير أصدرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مطلع 2025، روت عاملات في مصانع الملابس بحي شبرا الخيمة أنهن يضطررن لتحمل التحرش اللفظي والجسدي خوفًا من الفصل، في حين كشف التقرير ذاته أن أغلبهن لا يعرف شيئًا عن حق الشكوى أو النقابات.
منظمة العمل الدولية (ILO): في تقاريرها حول مصر، أشارت إلى أن نسبة كبيرة من القوى العاملة (تقدر بنحو 60% إلى 70% من العمالة الكلية، أي حوالي 15 إلى 18 مليون عامل وفقًا لتقديرات سابقة، مع الأخذ في الاعتبار النمو السكاني والتغيرات الاقتصادية) تعمل في القطاع غير الرسمي، ما يحرمهم من الحماية القانونية والاجتماعية، كما نبهت المنظمة إلى أهمية تعزيز الحوار الاجتماعي بين أطراف الإنتاج الثلاثة (الحكومة، أصحاب العمل، العمال) لتحقيق بيئة عمل مستدامة.
ودعت المنظمة إلى تطبيق صارم لقانون العمل خاصة في مجالات السلامة والصحة المهنية، وتوسيع مظلة التأمينات الاجتماعية لتشمل العمالة غير المنتظمة، واحترام حرية تكوين النقابات دون تدخل إداري مفرط، وتوفير إحصاءات دقيقة وحديثة حول إصابات العمل كخطوة أولى للعلاج.
العمل أكثر من مجرد أجر
في النهاية، لا يتعلق العمل اللائق فقط بالأجور أو عدد الساعات، بل بكرامة العامل وحمايته من الأخطار النفسية والجسدية، وإحساسه بالأمان والاستقرار.
ويقول خبراء إنه عندما يكون العامل خائفًا من الإصابة أو الفصل، يصبح أقل إنتاجًا وأقل إبداعًا مؤكدين أن بيئة العمل الآمنة ليست رفاهية، بل مصلحة للجميع.
ويمثل الحوار الذي يقوده المجلس القومي لحقوق الإنسان خطوة مهمة نحو بناء بيئة عمل تحترم كرامة الإنسان وتحقق العدالة الاجتماعية، لكنّ الطريق لا يزال طويلًا، إذ يتطلب تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، مع رقابة حقيقية وتطبيق صارم للقانون.