"تحلية المياه".. حلّ لأزمة العطش العالمي أم تهديد للعدالة المائية؟

"تحلية المياه".. حلّ لأزمة العطش العالمي أم تهديد للعدالة المائية؟
محطة تحلية مياه في دولة تشيلي

بينما تتجه بعض الدول إلى تحلية مياه البحر كخيار أخير لمواجهة الجفاف وندرة المياه، تكشف تجارب عدة –من قبرص إلى أستراليا– عن ثمن باهظ تدفعه الفئات الأضعف، وتهديد متنامٍ لحق الإنسان في مياه مأمونة ومستدامة.

في أحد المصانع الحديثة على الساحل الجنوبي لقبرص، تُسحب مياه البحر من عمق المتوسط وتُدفع عبر أنابيب معدنية ضخمة نحو نظام معقّد من الفلاتر والأغشية الصناعية، بعد ساعات من المعالجة الكيميائية والهيدروليكية، تُضخ المياه في شبكة التوزيع العامة، لتروي عطش السكان وتُبقي عجلة الاقتصاد دائرة.. لكن خلف هذه "المعجزة التكنولوجية"، تتوارى معضلة أعمق: من يدفع الثمن؟

وفي تقرير نشرته صحيفة “فايننشيال تايمز”، اليوم الاثنين، وُصفت قبرص بأنها في "الخط الأمامي للجفاف في أوروبا"، إذ تواجه الجزيرة القاحلة تراجعًا حادًا في كميات الأمطار منذ عام 1970 بنسبة 20%، مع توقعات بانخفاض أكبر في السنوات المقبلة.

وبينما تشكّل الزراعة 80% من استهلاك المياه في البلاد، بات تأمين الحصة المتبقية للسكان تحديًا وجوديًا، خاصة في المدن الكبرى كليماسول ونيقوسيا، أدى ذلك إلى اندفاع السلطات لتوسيع محطات تحلية المياه، التي تنتج حاليًا نحو 80% من المياه المستخدمة منزليًا، بحسب التقرير ذاته.

إلا أن هذه الحلول التكنولوجية –وإن بدت جذابة– تخفي في طيّاتها آثارًا اجتماعية وبيئية ومالية عميقة لا يتطرق لها الخطاب الرسمي، لكن قبرص ليست حالة معزولة حيث تتسارع الحكومات في بناء محطات التحلية لمواجهة أزمة المياه المتصاعدة.

وبحسب تقرير نشرته "دويتشه فيله" DW، ارتفع عدد محطات التحلية في العالم إلى أكثر من 21 ألف محطة، تنتج أكثر من 110 ملايين متر مكعب من المياه يوميًا، في قفزة تكنولوجية تهدف إلى سد فجوة الطلب المتزايد على المياه.

تكاليف باهظة

أحد أوضح الآثار يتجلّى في التكاليف المرتفعة المرتبطة بالتحلية، فبحسب مقارنة أجرتهاصحيفة "هيوستن كرونيكل "في ولاية تكساس الأمريكية، تبلغ تكلفة إنتاج متر مكعب واحد من الماء المحلّى نحو دولارين، مقارنة بـ0.20 دولار فقط لمياه الآبار أو الأنهار.

وفي دول ذات بنية تحتية محدودة أو دخل متوسط كقبرص، تُترجم هذه الفروقات إلى زيادات في فواتير المياه المنزلية، ما يثقل كاهل الشرائح الأكثر فقرًا.

ولا تكمن المشكلة فقط في السعر، بل في غياب العدالة في تحمّل هذه التكلفة، فالسياسات المائية القائمة في كثير من الدول، بما في ذلك قبرص، لا تأخذ في الاعتبار قدرة المواطنين على الدفع، ولا تُميّز بين الاستخدام المنزلي الضروري والاستخدام التجاري أو السياحي المكثف، وهذا ما يجعل من الحق في الماء، وفق ما تطرحه الأمم المتحدة، مسألة مهددة.

الخطر البيئي

رغم أن التحلية تُعد خيارًا "نظيفًا" من حيث وفرة المصدر، فإنها تحمل أضرارًا بيئية جسيمة، وفي تقرير لوكالة الأنباء الألمانية، وُصفت عمليات تصريف المياه المالحة (البراين) الناتجة عن التحلية بأنها "قنابل بيئية موقوتة"، هذه المخلفات، التي تحتوي على نسب عالية من الملح والمواد الكيميائية، تُفرغ في البحر وتؤثر سلبًا على النظام البيئي البحري، ما يهدد التنوع الحيوي ويُخل بالتوازن الطبيعي.

في السياق ذاته، أشار تقرير لصحيفة "لوموند" الفرنسية إلى أن النمو السريع لمحطات التحلية حول العالم –خاصة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا– قد يؤدي إلى "اعتماد خطر" على التكنولوجيا بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية لأزمة المياه، كالهدر وسوء التوزيع وتغير المناخ.

وفي أستراليا، التي تُعد من روّاد العالم في مجال تحلية المياه، كشفت مراجعة حكومية نُشرت في تقارير محلية أن محطات التحلية، رغم ضخامتها وتكلفتها العالية، لم تُحد من التفاوت في الوصول إلى المياه بين المناطق الحضرية والريفية، بل على العكس، أسهمت في رفع الكلفة على المستخدم النهائي، دون تحسين نوعية المياه أو ضمان استمرارية الخدمة في المناطق المعزولة.

الحق في المياه

النتائج نفسها تتكرر في قبرص، بحسب ما نقله تقرير "فايننشيال تايمز" فبينما تحصل المناطق السياحية على مياه وفيرة لتلبية احتياجات الفنادق والمنتجعات، تشتكي المجتمعات المحلية –خصوصًا كبار السن والمزارعين– من تقنين المياه وارتفاع أسعارها، هذا الواقع يطرح تساؤلات حادة حول الإنصاف في توزيع الموارد، وغياب منظور الحقوق في سياسات التحلية.

ولا ينبغي اعتبار تحلية المياه حلًا نهائيًا، بل أداة من أدوات متعددة لتحقيق الحق في المياه، هذا الحق، كما عرّفته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 64/292 عام 2010، يضمن "مياهًا مأمونة، مقبولة، ميسورة التكلفة ومتاحة للجميع دون تمييز".

لكن تطبيق هذا التعريف على أرض الواقع يواجه عقبات كثيرة، أبرزها ضعف الحوكمة، وانعدام الشفافية في تسعير المياه، وعدم إشراك المجتمعات المحلية في رسم السياسات.

وفي غياب هذه العناصر، تُصبح التحلية –مهما كانت فعّالة من الناحية التقنية– مجرد وسيلة لتوسيع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتثبيت الامتيازات بدلًا من تفكيكها.

ولتفادي ذلك يجب تبنّي مقاربة حقوقية تضع الإنسان في مركز السياسات المائية، ويشمل ذلك: إقرار تسعير تصاعدي للمياه، بحيث يدفع المستخدم الصناعي أو السياحي أكثر من المستخدم المنزلي وخاصة الفقراء، فرض ضوابط بيئية صارمة على تصريف مخلفات التحلية، وتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة شركات المياه، وضمان إشراك المجتمعات المحلية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمياه، بوصفها مورداً مشتركاً وليس سلعة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية