من الظلم إلى العدالة.. أستراليا تبدأ أولى خطوات المصالحة مع السكان الأصليين

من الظلم إلى العدالة.. أستراليا تبدأ أولى خطوات المصالحة مع السكان الأصليين
أفراد من الشعوب الأصلية في أستراليا- أرشيف

في لحظة وصفتها الأمم المتحدة بأنها “تاريخية”، أقرّ برلمان ولاية فيكتوريا الأسترالية أول معاهدة رسمية مع الشعوب الأصلية، فاتحاً صفحة جديدة في علاقة أستراليا المعقدة مع أبنائها الأوائل، وهي خطوةٌ اعتبرها مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك “محطة محورية نحو العدالة والمساواة، بعد قرون من الإقصاء والتمييز الذي خلّفه الاستعمار.

وتضع المعاهدة التي أُقرّت بعد سنوات من المشاورات والنقاشات، أسساً جديدة للعلاقة بين الحكومة وسكان البلاد الأصليين من شعبَي الأبورجينز والسكان من جزر مضيق توريس، وتنص الوثيقة على إنشاء جمعية دائمة منتخبة ديمقراطياً تمثل الشعوب الأصلية، تُعرف باسم جيلونغ وارل، لتكون منصة سياسية دائمة تُعبّر عن تطلعاتهم، وتشارك في صياغة القوانين والسياسات التي تمس حياتهم اليومية.

وتشمل بنود المعاهدة أيضًا إنشاء هيئة مستقلة لتقصي الحقائق تحت اسم "نيرنا يوروك تيلكونا"، تهدف إلى توثيق تاريخ المظالم والانتهاكات التي تعرض لها السكان الأصليون منذ الاستيطان الأوروبي عام 1788، إضافة إلى هيئة للمساءلة تُعرف باسم "نغينما نغينغا وارا" لمتابعة تنفيذ الاتفاقية وضمان التزامات الحكومة تجاه مجتمعات الشعوب الأصلية.

تاريخ من الجراح العميقة

رغم أن أستراليا اليوم تُعرف بأنها واحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في العالم، فإن جروح ماضيها الاستعماري ما زالت مفتوحة.

منذ وصول المستوطنين البريطانيين في أواخر القرن الثامن عشر، تعرض السكان الأصليون لعمليات تهجير قسري، وسلب للأراضي، وسياسات استيعاب قسري تهدف إلى محو هويتهم الثقافية.

وخلال القرن العشرين، استمرت سياسات “الجيل المسروق” التي شهدت انتزاع آلاف الأطفال الأصليين من عائلاتهم لتربيتهم في مؤسسات بيضاء، وهي ممارسات اعتذرت عنها الحكومة الفيدرالية رسميًا عام 2008 لكنها تركت آثارًا اجتماعية ونفسية لا تُمحى.

وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن متوسط العمر المتوقع للسكان الأصليين يقل بنحو ثماني سنوات عن نظرائهم من غير السكان الأصليين، وأن معدلات البطالة والفقر وسوء الصحة لا تزال أعلى بكثير في مجتمعاتهم مقارنة بباقي سكان أستراليا.

فيكتوريا تتقدم والأمة تتأمل

تأتي خطوة ولاية فيكتوريا بعد إخفاق وطني في العام الماضي، حين رفض الأستراليون في استفتاء عام 2023 مقترحًا لتعديل الدستور الفيدرالي بهدف إنشاء "صوت برلماني" للسكان الأصليين على المستوى الوطني، وهو ما شكل خيبة أمل كبيرة للمجتمعات الأصلية.

ورغم تلك النكسة، أصرت ولاية فيكتوريا على المضي قدمًا في مشروعها الخاص للمعاهدة، لتكون أول ولاية أسترالية تُقدِم على إبرام اتفاق رسمي من هذا النوع. ويرى مراقبون أن التجربة قد تشكل نموذجًا عمليًا يعيد الزخم لفكرة المصالحة الوطنية على مستوى البلاد بأكملها.

وقال فولكر تورك في بيانه: "إن ولاية فيكتوريا تقود مبادرة قادرة على إحداث تحول حقيقي، فهي تضمن للشعوب الأصلية صوتًا مباشراً في المشورة وصياغة القوانين والسياسات، بما يتماشى مع التزامات أستراليا الدولية في مجال حقوق الإنسان".

الأمم المتحدة ترحب

أشاد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بالمعاهدة باعتبارها نموذجاً يمكن أن يحتذيه قادة آخرون في أستراليا وخارجها، داعياً إلى اعتماد تدابير مماثلة للاعتراف بالشعوب الأصلية عبر آليات للحكم التشاركي والمساءلة.

وقال تورك: "آمل أن يلهم هذا قادة آخرين في أستراليا وخارجها لاعتماد تدابير مماثلة للاعتراف بالشعوب الأصلية من خلال حوكمة شاملة وآليات مبتكرة للمصالحة، وهو ما يعزز في نهاية المطاف مجتمعاً قائماً على الاحترام المتبادل وحقوق الإنسان للجميع".

من جانبها، رحبت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية بالخطوة، معتبرة أن إنشاء آلية مستقلة لتقصي الحقائق يتماشى مع مبادئ العدالة الانتقالية المعترف بها دولياً، مؤكدة أن أي مصالحة حقيقية يجب أن تبدأ من الاعتراف بالحقائق المؤلمة.

ردود أفعال متباينة

في الداخل الأسترالي، لاقت الخطوة ترحيباً واسعاً من المجتمعات الأصلية ومنظمات حقوق الإنسان. ووصفتها منظمة هيومن رايتس لو الأسترالية بأنها “نقطة تحول تاريخية نحو معالجة قرون من الإقصاء المؤسسي”.

وقالت الناشطة الأصلية ليندا بورني، وهي وزيرة سابقة لشؤون السكان الأصليين، إن المعاهدة تمنحنا أخيراً الحق في التحدث باسم أنفسنا، لا أن يتحدث الآخرون نيابة عنا، مضيفة أن إنشاء هيئة لتقصي الحقائق هو وعد بأن التاريخ لن يُكتب مرة أخرى بيد طرف واحد.

في المقابل، أبدى بعض الساسة المحافظين تحفظات بشأن المعاهدة، معتبرين أنها تُدخل نظاماً موازياً للحكم وتُثير مخاوف حول الصلاحيات التشريعية للهيئات الجديدة، في حين ردّت حكومة الولاية بأن المعاهدة لا تُنقص من سيادة الدولة بل تُعزز وحدة العدالة والمشاركة.

الإطار القانوني والحقوقي

ترتبط هذه الخطوة بالمعايير المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية الصادر عام 2007، والذي يقرّ بحق هذه الشعوب في تقرير المصير والحفاظ على هويتها الثقافية والمشاركة في القرارات التي تمسها مباشرة.

وكانت أستراليا قد صوتت ضد الإعلان عند صدوره، لكنها غيّرت موقفها رسميًا عام 2009، معلنة التزامها الكامل بمبادئه.

ويرى خبراء القانون الدولي أن معاهدة فيكتوريا تمثل تطبيقًا عمليًا لتلك المبادئ، خاصة في حين يتعلق بمبدأ التمثيل الحر والمسبق والمستنير للشعوب الأصلية في القرارات الحكومية.

وقال البروفيسور جيمس أنجوس من جامعة ملبورن إن ما يجري في فيكتوريا ليس مجرد تسوية سياسية، بل تحول قانوني يعترف للمرة الأولى بوجود نظامين ثقافيين متوازيين يمكن أن يتعايشا ضمن الدولة الحديثة.

مواجهة الإرث الاستعماري

تُعد هذه المعاهدة جزءاً من مسار أوسع داخل أستراليا يُعرف بـ "عملية الحقيقة والمصالحة"، على غرار التجارب التي شهدتها دول مثل كندا وجنوب إفريقيا والنرويج.

وتعتمد هذه العملية على مبدأ أن الاعتراف بالماضي هو شرط ضروري لبناء مستقبل مشترك.

وفي هذا السياق، قال المفوض السامي فولكر تورك إن تنفيذ المعاهدة والتشريعات المصاحبة لها يجب أن يمضي قدماً لإحداث تغيير ملموس في حياة الشعوب الأصلية في فيكتوريا، مشدداً على أهمية الانتقال من الرمزية إلى التطبيق العملي، عبر سياسات تعزز التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل للمجتمعات الأصلية.

تداعيات إنسانية وسياسية 

على الصعيد الإنساني، يرى مراقبون أن نجاح التجربة في فيكتوريا قد يفتح الباب أمام خطوات مماثلة في ولايات أسترالية أخرى مثل كوينزلاند ونيو ساوث ويلز، وربما على المستوى الفيدرالي مستقبلاً.

أما على الصعيد الدولي، فتأتي الخطوة في لحظة متزايدة من الوعي العالمي بحقوق الشعوب الأصلية، مع تحركات مماثلة في كندا وتشيلي ونيوزيلندا نحو الاعتراف القانوني الكامل بتراث السكان الأصليين وأدوارهم في صياغة السياسات العامة.

كما أن المعاهدة الأسترالية تحمل بُعداً رمزياً مهماً في ظل النقاشات العالمية حول العدالة المناخية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن مجتمعات السكان الأصليين تلعب دوراً محورياً في حماية البيئة والتنوع الحيوي، لكنها من أكثر الفئات تضرراً من التغير المناخي.

لا تمحو معاهدة فيكتوريا قروناً من الظلم، لكنها تُعد أول اعتراف رسمي بأن العلاقة بين الدولة وشعوبها الأولى يجب أن تقوم على الشراكة لا الوصاية، وعلى الحوار لا الإملاء.

هي خطوة صغيرة في المقياس الزمني، لكنها ضخمة في معناها الرمزي والإنساني، تعيد للأصوات التي طال إسكاتها حقها في أن تُسمع، وللأرض التي نُزعت من أصحابها فرصة أن تُروى حكايتها بعدل وكرامة.

وبحسب كلمات فولكر تورك: “هذه ليست مجرد معاهدة قانونية، إنها بداية عقد جديد بين التاريخ والمستقبل — بين الأستراليين جميعًا، على أساس الاحترام المتبادل وحقوق الإنسان للجميع”.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية