حق التصويت في مهبّ التغيير.. نيوزيلندا تواجه أزمة إصلاح انتخابي تهدد حقوق الإنسان

حق التصويت في مهبّ التغيير.. نيوزيلندا تواجه أزمة إصلاح انتخابي تهدد حقوق الإنسان
البرلمان النيوزيلندي

لطالما عُرفت نيوزيلندا، أو "أوتياروا" بلغة الماوري، بأنها منارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الدولة التي كانت سباقة في منح المرأة حق التصويت، لكن هذه السمعة الديمقراطية تتعرض اليوم لاختبار حقيقي، مع خطط الحكومة اليمينية برئاسة كريستوفر لوكسون لإجراء إصلاحات شاملة على القوانين الانتخابية. 

وبينما تُبرر الحكومة هذه التغييرات بكونها تهدف إلى تحديث قوانين "عتيقة وغير مستدامة"، إلا أن تحذيرات المدعي العام المنشورة اليوم الاثنين من أن هذه الخطوات قد تنتهك قانون حقوق الإنسان وتحرم أكثر من 100 ألف ناخب من حقهم في التصويت، تُثير قلقًا عميقًا وتُلقي بظلال من الشك على نوايا الإصلاحات المزعومة، إنها قضية لا تمس فقط العملية الانتخابية، بل تتغلغل إلى عمق النسيج الديمقراطي للبلاد وتُهدد جوهر المساواة والتمثيل وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.

هذه الأزمة، التي تضع مبادئ الشمولية الديمقراطية على المحك، تطرح تساؤلات أكبر: هل يمكن للإصلاح الانتخابي أن يتحول من أداة تحديث إلى وسيلة تمييز واستبعاد؟ وما حجم المخاطر الحقيقية على حقوق الإنسان في واحدة من أعرق الديمقراطيات البرلمانية؟

تحديث تقني أم تقييد ممنهج؟

الخطة التي طرحتها حكومة رئيس الوزراء كريستوفر لوكسون شملت عدة تغييرات أبرزها: إغلاق باب تسجيل الناخبين قبل 13 يومًا من يوم الاقتراع، وإعادة فرض حظر شامل على تصويت السجناء، ومنع تقديم الطعام أو الشراب أو الترفيه مجانًا على بُعد 100 متر من مراكز الاقتراع.

تروج الحكومة في نيوزيلندا لهذه التعديلات باعتبارها محاولة لتبسيط العملية الانتخابية وتقليل الوقت المطلوب لفرز الأصوات النهائية، خاصة الأصوات الخاصة التي تُسجل في فترة التصويت المبكر أو يوم الانتخابات نفسه، وأكد لوكسون أن تأخر التسجيل أدى إلى تأخير إعلان النتائج لأسابيع في انتخابات 2023، ما يضر بالثقة في النظام الديمقراطي.

لكن النقاد يرون في ذلك مقاربة تقنية تتجاهل الأبعاد الإنسانية والاجتماعية. فتقرير المدعية العامة جوديث كولينز قدم تحذيرًا واضحًا: هذه التعديلات قد تؤدي عمليًا إلى انتهاك الحق في التصويت والحق في حرية التعبير المنصوص عليهما في وثيقة الحقوق النيوزيلندية لعام 1990.

نظرة إلى الأرقام والأقليات

في الانتخابات الأخيرة لعام 2023، سُجل أكثر من 200 ألف صوت خاص، بينهم نحو 97 ألف ناخب تسجلوا لأول مرة خلال فترة التصويت المبكر، و134 ألفًا غيّروا دوائرهم الانتخابية، وتشير البيانات إلى أن هذه الأصوات الخاصة تميل للصدور عن فئات محددة هي: الشباب، ومجتمعات الماوري (السكان الأصليين)، وذوو الأصول الآسيوية والباسيفيكا.

وبالتالي، فإن فرض موعد نهائي للتسجيل قبل أسبوعين من الاقتراع قد يُقصي فعليًا عشرات الآلاف، معظمهم من هذه الفئات، ويُكرّس فجوة تمثيلية بين المجموعات السكانية.

وأحد أكثر بنود الخطة إثارة للجدل هو إعادة فرض الحظر الشامل على تصويت السجناء. في 2010، كانت حكومة يمينية سابقة قد حظرت تصويت جميع السجناء، لكن في 2020 سمحت حكومة العمال لبعض السجناء –ممن يقضون عقوبات أقل من ثلاث سنوات– بالتصويت.. الخطوة الجديدة تمثل تراجعًا كاملًا عن هذا التقدم المحدود.

ترى كولينز في تقريرها أن هذا الحظر "لا يمكن تبريره" ويشكل انتهاكًا لحق أساسي. بينما يرى المدافعون عن حقوق الإنسان أن السماح للسجناء بالتصويت يرسخ مفهوم إعادة الإدماج المجتمعي ويعترف بإنسانيتهم الأساسية.

تداعيات حقوقية أوسع

لا تقتصر تداعيات التعديلات على إحصائيات التسجيل أو قوائم الناخبين، بل تمتد إلى صميم العلاقة بين الدولة ومواطنيها من خلال تقييد المشاركة السياسية فكلما زادت القيود الإجرائية، تراجع إقبال الناخبين، خاصة بين المجموعات الهشة اجتماعيًا، ومن جهة تآكل الثقة بالديمقراطية قد يشعر المواطنون بأن النظام يُصمم لاستبعادهم، ما يعزز اللامبالاة السياسية، وقد يحدث تمييز غير مباشر فرغم أن القانون لا يذكر جماعة محددة، فإن تأثيره الواقعي يكون أكبر على مجموعات تاريخيًا أقل تمثيلًا.

وقال دنكان ويب، المتحدث باسم حزب العمال لشؤون العدالة، إن الإصلاحات تغييرات مروّعة تجعل من الصعب على الكثيرين ممارسة حقهم الديمقراطي بدلًا من توسيعه.

وتُتابع المنظمات الحقوقية والأممية والصحافة الدولية عن كثب التطورات التشريعية في نيوزيلندا، خاصة تلك التي قد تُؤثر على حقوق الإنسان.

وتُشجع وكالات الأمم المتحدة المعنية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الدول على تعزيز المشاركة الديمقراطية الشاملة وحماية حق التصويت للجميع. وعلى الرغم من عدم وجود إدانة محددة من الأمم المتحدة لهذه التغييرات في نيوزيلندا (حتى تاريخ هذا التقرير)، فإن مبادئها العامة تدعم الوصول الشامل للتصويت وتُعارض أي قيود غير مبررة عليه.

وتُدافع منظمة العفو الدولية عن الحق في التصويت الشامل، خاصة للفئات المهمشة، وتُدين أي إجراءات تُقوض هذا الحق. في سياقات أخرى، دعت العفو الدولية إلى ضمان حق السجناء في التصويت ما لم يكن هناك سبب قوي ومُبرر لتقييد هذا الحق.

وتشدد هيومن رايتس ووتش المنظمة على أهمية ضمان عمليات انتخابية عادلة وشاملة، وتُحذر من التشريعات التي قد تُؤثر بشكل غير متناسب على مجموعات معينة أو تُقيد الحقوق المدنية.

من المرجح أن تكون المنظمات الحقوقية النيوزيلندية، وخاصة تلك التي تُعنى بحقوق الماوري والشعوب الأصلية والمجموعات المهمشة، في طليعة المدافعين ضد هذه التغييرات، نظرًا لتأثيرها المحتمل على مجتمعاتهم.

انتقادات وتحذيرات متصاعدة

حتى الآن، لم تصدر منظمات دولية تقارير مفصلة حول الخطة الجديدة لكونها لا تزال في طور التشريع، لكن مبادئ الأمم المتحدة الأساسية تنص بوضوح على أن التعديلات الانتخابية يجب ألا تُستخدم لتقليل حق التصويت أو استبعاد فئات اجتماعية.

وفي قضايا مماثلة عالميًا، كانت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية تؤكدان أن أي تغييرات تؤدي إلى انخفاض المشاركة السياسية، خاصة للمجتمعات المهمشة، تُعد تراجعًا عن الالتزامات الدولية بحقوق الإنسان.

تاريخيًا، تُعد نيوزيلندا رائدة عالميًا في توسيع الحقوق الانتخابية ففي 1893 كانت أول دولة تمنح المرأة حق التصويت، وفي عام 1993 تم إدخال نظام التمثيل النسبي المختلط (MMP) لتوسيع التنوع البرلماني، إضافة لما شهدته على مدى عقود من سياسات تهدف إلى رفع تمثيل الماوري والأقليات الأخرى.

كما شهدت السنوات الأخيرة مبادرات لزيادة المشاركة، مثل السماح بالتسجيل في نفس يوم الاقتراع وإطلاق حملات توعية تستهدف الشباب.

بين النصوص القانونية والعدالة

في ضوء تقرير المدعي العام، تبدو الحكومة ملزمة بمراجعة مشروع القانون لتقليل تعارضه مع شرعة الحقوق، وقد تُعدل المدة المقترحة لتكون أقصر، مثل سبعة أيام بدلًا من 13، ما قد يُبقي الباب مفتوحًا لمزيد من الناخبين، لكن حتى في هذا السيناريو، ستظل قضية تصويت السجناء موضع صدام حاد بين الحكومة والمعارضة الحقوقية، التي ترى أن حرمان السجناء تمييز لا يتوافق مع المعايير الدولية.

تقول مبادئ العدالة الانتخابية الحديثة إن القوانين يجب أن تسهّل المشاركة بدلًا من تعقيدها، فبدون إدراك الأبعاد الإنسانية والاجتماعية لأي تعديل، قد يتحول "الإصلاح" إلى باب جديد للتمييز والاستبعاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية