القمع العابر للحدود.. متى تتوقف الانتهاكات الإيرانية ضد المعارضة في الخارج؟
القمع العابر للحدود.. متى تتوقف الانتهاكات الإيرانية ضد المعارضة في الخارج؟
في ظلال العواصم الأوروبية والمدن الأمريكية، يعيش آلاف الإيرانيين المنفيين حياة مزدوجة، ظاهريًا هم لاجئون أو معارضون أو صحفيون يمارسون حريتهم التي حُرموا منها في بلدهم، لكن في الحقيقة تحيط بهم دائرة من الخوف المستمر من استهداف صامت قادم من طهران.
وفي نهاية يوليو الماضي، عبّر بيان مشترك صادر عن 14 دولة غربية، بينها الولايات المتحدة، فرنسا، كندا، وألمانيا، عن قلق متزايد من محاولات أجهزة الاستخبارات الإيرانية قتل وخطف ومضايقة المواطنين الإيرانيين المحسوبين على المعارضة في الخارج.
هذا البيان النادر في صرامته يكشف أزمة دولية متنامية تتجاوز كونها مجرد عمليات أمنية، لتتحول إلى انتهاك صارخ للقانون الدولي وتهديد مباشر لسيادة الدول وحرية مواطنيها المقيمين على أراضيها.
شبكات الخوف الدولية
بحسب البيان، لم تكتفِ طهران بمحاولة اختراق جماعات المعارضة الإيرانية في المهجر أو التجسس عليهم فحسب، بل تتعاون بشكل متزايد مع منظمات إجرامية دولية لاستهداف الصحفيين والمعارضين والمواطنين اليهود والمسؤولين الحاليين والسابقين في أوروبا وأمريكا الشمالية.
هذه الأنشطة لم تعد مجرّد شائعات، بل باتت حقائق مدعومة بتحقيقات أمنية واعتقالات في أكثر من دولة أوروبية، حيث اكتُشفت خلايا تعمل بأوامر مباشرة من أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية، والهدف هو إسكات الأصوات الناقدة وتصفية الحسابات خارج حدود إيران.
وتعود جذور هذه الاستراتيجية إلى أوائل الثمانينات، حين استهدفت أجهزة النظام الإيراني شخصيات معارضة بارزة في أوروبا وتركيا، من بينها اغتيال الأمين العام الأسبق للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو في فيينا عام 1989، واغتيال أربعة معارضين أكراد في مطعم ميكونوس ببرلين عام 1992، واغتيال عضو الحزب الشيوعي الإيراني غلام كشاورز في اليونان واغتيال آخر رئيس وزراء للشاه، شابور بختيار في باريس وتصفية الفنان المعارض فريدون فرخزاد في ألمانيا.
ورغم مرور عقود، لم تُوقف إيران هذه العمليات، بل أعادت تفعيلها مع تزايد الغضب الشعبي في الداخل واتساع دائرة المعارضين في الخارج، ويشير تقرير صادر عن مركز حقوق الإنسان في إيران (CHRI) إلى أن أجهزة الاستخبارات الإيرانية تعتبر القمع العابر للحدود أداةً مركزية لترهيب الجاليات الإيرانية في أوروبا وأمريكا، بهدف منعها من دعم الحركات الاحتجاجية داخل البلاد.
اختطاف ومساومة
إلى جانب عمليات الاغتيال والتخويف، اتبعت طهران سياسة خطيرة أخرى ممثلة في اختطاف مواطنين مزدوجي الجنسية أو أجانب داخل إيران أو استدراجهم إليها ثم احتجازهم، لاستخدامهم ورقة تفاوض مع الحكومات الغربية.
تُقدّر منظمات حقوقية دولية أن إيران تحتجز حاليًا أكثر من 20 شخصًا مزدوجي الجنسية أو أجانب في ظروف قاسية، من بينهم أكاديميون وصحفيون وعمال إغاثة، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وللقوانين الدولية التي تحمي المدنيين.
ومن بين العمليات الإيرانية التي تم توثيقها إعلامياً ورد أنه في نوفمبر 1988 أوقفت الشرطة التركية سيارة مشبوهة فوجدت في الصندوق الخلفي أبوالحسن مجتهد زاده عضو منظمة مجاهدي خلق مكبلا، وكانت السيارة في طريقها إلى إيران وتبين لاحقاً بأن أعضاء السفارة الإيرانية في تركيا كانوا ضالعين في العملية بمن فيهم منوتشهر متكي الذي أصبح لاحقاً وزيراً للخارجية في حكومة محمود أحمدي نجاد.
وفي عام 1992 تم اختطاف عضو آخر لمجاهدي خلق في تركيا يدعى علي أكبر قرباني ووجد جسده بعد بضعة أيام من الاختطاف واعتقلت السلطات التركية بعض الأشخاص وتبين بأنهم قاموا باختطافه وتسليمه لعناصر مخابراتية إيرانية مقابل تلقي أموال من السفارة الإيرانية في أنقرة.
وفي يناير 1992 تزامنا مع اختطاف علي أكبر قرباني تم اختطاف الرائد عباس قلي زاده أحد ضباط الحرس الملكي الإيراني في نظام الشاه وعضو تنظيم "درفش كاوياني" أمام أعين أسرته في تركيا وبعد 9 أشهر تم العثور على جسده المشوه نتيجة لتعرضه للتعذيب.
وفي خريف 1996 تم في مدينة السليماني في كردستان العراق، اختطاف عدد من أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وهم أرشد رضائي وعدنان إسماعيلي ويونس محمد بور وعزيز قادري ومعروف سهرابي واختفت أي أخبار عنهم منذ وقتها.
وفي عام 2006 تم على الأراضي التركية اختطاف مدير قناة "اللجنة الملكية الإيرانية" باسم "فرود فولادوند" وعدد من مرافقيه ومصيرهم جميعاً لا يزال مجهولاً.
وفی فبرایر 2010 أعلن وزير الداخلية الإيراني الأسبق مصطفى نجار عن اعتقال زعيم تنظيم "جند الله" البلوشية المسلحة في خارج إيران ونقله إلى الداخل الأمر الذي أكده وزير المخابرات السابق حيدر مصلحي.
وحسب منظمة العفو الدولية، اختطف الصحفي الإيراني، روح الله زم، الذي فر من إيران بعد الاحتجاجات التي أعقبت انتخابات 2009، وحصل على حق اللجوء في فرنسا؛ وتم الاختطاف أثناء زيارة للعراق في أكتوبر 2019 من قبل الحرس الثوري الإيراني، على ما يبدو، وأُعيد قسراً إلى إيران.
وأعلنت وزارة المخابرات الإيرانية في بيان لها في الأول من أغسطس 2020 بأنها اعتقلت المعارض "جمشيد شارمهد" عبر عمليات معقدة على حد وصف الوزارة، وبما أن شارمهد يحمل الجنسية الألمانية ويعيش في الولايات المتحدة، يبدو بأنه كان في زيارة عمل إلى الشرق الأوسط فتم اختطافه من قبل المخابرات الإيرانية.
رد دولي يخرج عن الصمت
البيان الصادر أخيراً يكتسب أهمية استثنائية لأنه للمرة الأولى تُظهر هذه الدول موقفًا جماعيًا موحدًا ضد محاولات طهران التغلغل الأمني داخل أراضيها.
وأكدت الدول الموقعة –وهي ألبانيا، النمسا، بلجيكا، كندا، تشيكيا، الدنمارك، فنلندا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، إسبانيا، السويد، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة– رفضها المطلق لهذه الأنشطة التي تنتهك سيادتها، وتعهدت بالعمل المشترك لمنع وقوع هذه الأفعال.
هذا التصعيد يعكس قناعة بأن استهداف طهران للمعارضين والصحفيين لم يعد مجرد خطر محتمل، بل أصبح تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي لهذه الدول.
ورحّب مركز حقوق الإنسان في إيران بالبيان الغربي، لكنه عده غير كافٍ ما لم يتبعه تحرك متعدد الأطراف منسق يفرض على إيران تكلفة سياسية واقتصادية حقيقية لاستمرار هذه العمليات.
وفي تصريح للمركز، اعتُبر أن صمت العالم يشجع إيران على مواصلة سياسة تكميم أفواه المعارضين في الخارج، وطالب المركز بإجراءات مثل فرض عقوبات على كبار مسؤولي الاستخبارات الإيرانية، وملاحقة المتورطين قضائيًا في أوروبا وأمريكا، والتشدد في حماية المواطنين الإيرانيين المعارضين المقيمين في الخارج.
استهداف واسع النطاق
لا توجد إحصاءات رسمية كاملة توثق عدد محاولات الاغتيال أو الاختطاف التي نفذتها أو خططت لها طهران منذ 2010، لكن تقارير استخباراتية أوروبية تُشير إلى إحباط عدة محاولات سنويًا.
في عام 2022، أعلنت الاستخبارات الدنماركية إحباط محاولة اغتيال ناشط معارض، وفي 2023، كشفت ألمانيا عن شبكة تجسس استهدفت شخصيات معارضة وصحفيين. وفي المملكة المتحدة، رصدت الاستخبارات أكثر من 10 مخططات استهداف خلال عام واحد فقط.
هذه الأرقام تبرهن أن التهديد لم يعد نظريًا، بل تحوّل إلى نمط عمل ممنهج تشارك فيه شبكات إجرامية دولية لتقليل بصمة الاستخبارات الإيرانية وتجنب كشف تورطها المباشر.
وبالنسبة للآلاف من الصحفيين والمعارضين والنشطاء الإيرانيين في أوروبا وأمريكا الشمالية، صار الخوف جزءًا من الحياة اليومية.
يحكي بعضهم عن تغيير عناوين سكنهم باستمرار، تجنّب التجمعات العامة، أو حتى التخلي عن النشاط الإعلامي خشية الانتقام، وفي بعض الحالات، تعرّضت عائلاتهم في إيران لمضايقات أو تهديدات مباشرة، في رسالة واضحة: سكوتكم هو سبيل سلامتكم.
صراع داخلي
محللون يرون أن تصعيد إيران لهذه الأنشطة لا ينفصل عن أزماتها الداخلية، فمع تصاعد الغضب الشعبي وتكرار الاحتجاجات، تحاول الأجهزة الأمنية تصدير الخوف خارج الحدود لكبح المعارضة في المهجر التي تلعب دورًا كبيرًا في تغطية الانتهاكات وتحريك الرأي العام الدولي.
وبحسب مركز حقوق الإنسان في إيران، فإن نشر الخوف بين الجاليات الإيرانية في الخارج جزء لا يتجزأ من استراتيجية بقاء النظام مؤكدا أن أزمة القمع العابر للحدود الإيراني ليست شأناً إيرانياً داخليًا، بل هي تحدٍّ مباشر للقيم التي تدافع عنها الدول الديمقراطية ممثلة في حرية التعبير، حماية الصحفيين، وسيادة القانون، منوهاً أنه ما لم تقترن الإدانات بتحركات ملموسة، ستبقى حياة الآلاف من النشطاء والمعارضين مهددة في عواصم يُفترض أنها آمنة.