خمس سنوات من الصمت.. إلى متى تؤجل العدالة بحق ضحايا مرفأ بيروت؟
خمس سنوات من الصمت.. إلى متى تؤجل العدالة بحق ضحايا مرفأ بيروت؟
في الرابع من أغسطس عام 2020، اهتزت العاصمة اللبنانية بيروت بانفجار مروع غيّر وجهها إلى الأبد، لم يكن الانفجار مجرد كارثة عابرة، بل كان علامة فارقة في تاريخ لبنان الحديث، حيث كشف عن عمق الأزمة السياسية والإدارية التي تعصف بالبلاد.
وبعد مرور خمس سنوات على الكارثة التي أودت بحياة ما لا يقل عن 236 شخصًا وأصابت أكثر من 7000 آخرين، وشرد أكثر من 300 ألف شخص من منازلهم لا تزال العدالة لضحايا انفجار مرفأ بيروت حلماً بعيد المنال، بينما تتعثر مسارات التحقيق في متاهات التعطيل السياسي والمحسوبية.
هذه المأساة، التي وصفتها المنظمات الحقوقية بأنها أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، لم تكن نتاج حادثة عرضية، بل نتيجة مباشرة لتقصير جسيم وإهمال مزمن من قبل مسؤولين كبار في الدولة. فكميات هائلة من مادة نترات الأمونيوم شديدة الخطورة تُركت في عنبر رقم 12 بالمرفأ لسنوات دون أي إجراءات وقائية، رغم التحذيرات المتكررة من مسؤولين محليين ودوليين.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة تجاوزت 3.8 مليار دولار أمريكي، لتزيد من تفاقم أزمة اقتصادية كانت تعصف بلبنان أصلًا.
عقبات سياسية وقانونية
رغم هول الكارثة، لم يتم حتى اليوم إعلان نتائج حاسمة للتحقيق المحلي، فبعد تولي القاضي طارق البيطار التحقيق، تعرض لمسلسل طويل من العرقلة: استدعاء مسؤولين كبار رفضوا المثول، تقديم عشرات الدعاوى لكفّ يده، والتذرع بالحصانات البرلمانية والإدارية، هذه العراقيل السياسية والقانونية عطّلت مسار العدالة بشكل متكرر.
في يناير 2023، حاول البيطار استئناف التحقيق، لكن النائب العام التمييزي السابق، غسان عويدات، الذي وُجهت له تهم أيضًا، بادر برفع دعوى ضده، وأمر بإطلاق سراح جميع الموقوفين في القضية، لم يكن ذلك مجرد تعطيل للتحقيق، بل رسالة واضحة بأن نفوذ السلطة السياسية أقوى من إرادة العدالة.
في فبراير 2025، وبعد تعليق التحقيق عامين إضافيين، استأنف القاضي البيطار تحقيقاته، مدعومًا بتعهدات سياسية جديدة من الرئيس المنتخب جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام بتحقيق العدالة واحترام سيادة القانون، وبدت خطوات إيجابية في مارس، عندما ألغى النائب العام التمييزي الجديد جمال الحجار التدابير التي جمدت التحقيق.
ولبّى بعض المسؤولين الاستدعاء للاستجواب، مثل رئيس الوزراء الأسبق حسان دياب، واللواء عباس إبراهيم، ورئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا.
لكن مسؤولين آخرين، أبرزهم النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر، بالإضافة إلى عويدات نفسه، استمروا في رفض المثول أمام القضاء، مستندين إلى الحصانات البرلمانية والقضائية.
انتهاك حقوق الضحايا
بحسب منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، لم يتحقق حتى الآن أي تقدّم يُذكر في كشف الحقيقة أو محاسبة المسؤولين، وصفت المنظمتان التحقيق المحلي بأنه معطّل بشكل ممنهج، نتيجة التدخل السياسي المستمر والتلاعب القانوني الذي يمنح المسؤولين الكبار حصانة غير مبررة.
هيومن رايتس ووتش أشارت في تحقيق أجرته عام 2021 إلى أن الانفجار كان نتيجة مباشرة لتقصير السلطات اللبنانية في حماية الحق في الحياة والسلامة الجسدية، وأوضحت أن مسؤولين كبارًا علموا بمخاطر تخزين نترات الأمونيوم في المرفأ لكنهم لم يتخذوا أي إجراء لحماية الناس.
وفي مارس 2023، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بيانًا مشتركًا أعرب فيه عن قلقه العميق من التدخل السياسي الذي يعطل التحقيق، ودعا إلى ضمان إجراء مستقل وفعّال وشفاف يكشف ملابسات الانفجار ويحاسب المتورطين.
انتظار العدالة بلا نهاية
وراء هذه الأرقام والوقائع، يقف مشهد إنساني مؤلم لعائلات الضحايا التي لا تزال تنتظر الحقيقة، تقول رينا وهبي، مسؤولة الحملات المعنية بلبنان في منظمة العفو الدولية: تأخير العدالة هو إنكار للعدالة لقد انتظرت عائلات الذين قُتلوا وأصيبوا في انفجار بيروت خمس سنوات لا تُطاق، ولا يجوز إجبارها على تحمل الإفلات من العقاب لسنة أخرى،.
تحولت مسيرة أهالي الضحايا إلى كفاح طويل ضد النفوذ السياسي، إذ ينظمون اعتصامات دورية، ويقفون أمام قصور العدل رافعين صور أحبّتهم التي تحولت إلى رمز للوعد المكسور بتحقيق العدالة.
أزمة انفجار المرفأ لم تكشف فقط عن الإهمال الإداري الخطير، بل عرّت أيضًا أزمة بنيوية أعمق: نظام سياسي طائفي يمنح الطبقة الحاكمة حصانة تكاد تكون مطلقة، فغالبًا ما تُستغل الثغرات القانونية والحصانات الدستورية لتأجيل التحقيقات وإسقاطها، وهو ما يُبقي القضاء ضعيفًا أمام نفوذ السياسيين.
أشار خبراء قانونيون إلى ضرورة تعديل قوانين أصول المحاكمات المدنية والجزائية، التي تسمح بتقديم دعاوى لا حصر لها لتعطيل التحقيق، وهو ما استُخدم ضد القاضي البيطار.
تحديات أمام القضاء
إلى اليوم، ما زال التحقيق يراوح مكانه بين محاولات استئناف تعطّلها طعون جديدة، الطريق إلى العدالة محفوف بتحديات سياسية وقانونية كبرى، لكن الأهم، كما قالت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، هو أن يكون التحقيق شاملًا، مستقلًا، وغير خاضع لأي تدخل، وأن يُظهر التسلسل الكامل للمسؤوليات، حتى على المستوى الدولي إذا لزم الأمر.
ويُدرك اللبنانيون أن العدالة لضحايا انفجار المرفأ لم تعد مجرد مطلب عائلات ثكلى، بل باتت اختبارًا جوهريًا لالتزام لبنان بمبادئ سيادة القانون وحقوق الإنسان، في بلد اعتاد تكرار المآسي من دون محاسبة حقيقية.