تصاعد العنصرية في بولندا.. هل المهاجرون ضحايا أم تهديد؟
تصاعد العنصرية في بولندا.. هل المهاجرون ضحايا أم تهديد؟
رغم أن بولندا كانت موضع إشادة دولية لاستقبالها ملايين اللاجئين الأوكرانيين، تمر البلاد اليوم بتحوّل دراماتيكي في علاقتها مع المهاجرين، خاصة أولئك القادمين من دول الجنوب العالمي، لم تعد صورة اللاجئ مرتبطة بالضحية الفارّة من الحرب، بل تحوّلت في الخطاب السياسي والإعلامي السائد إلى "مُتسلّل" يحمل تهديدًا للهوية والثقافة والأمن.
وفي الأسابيع الأخيرة، تصاعدت المشاعر العدائية تجاه المهاجرين، مدفوعة بخطاب شعبوي تبنّاه اليمين المتطرف، واتخذ من أزمة الهجرة منصة لصنع رأسمال سياسي متجدد.
في 7 يوليو الماضي فرضت الحكومة البولندية قيودًا جديدة على حدودها مع ألمانيا وليتوانيا، مستجيبة لضغوط سياسية محلية وخارجية لمنع طالبي اللجوء من استخدام بولندا "محطة عبور" نحو أوروبا الغربية، هذا الإجراء أتى بعد خطوات مشابهة من الجانب الألماني.
وعلى الرغم من أن عمليات الإعادة من قبل الشرطة الألمانية للمهاجرين عبر بولندا تستند إلى قواعد اتفاقية "دبلن" الأوروبية، فقد غذّى هذا الواقع حملة شعبوية متصاعدة، رافقها ظهور دوريات غير رسمية لليمين المتطرف عند الحدود، حاولت تنفيذ "اعتقالات مدنية" للمهاجرين، في انتهاك واضح لحقوق الإنسان.
جدار فشل في إيقاف البشر
ليست هذه الأزمة وليدة اللحظة. فمنذ عام 2021، بدأت بولندا تشهد تدفقًا متزايدًا للمهاجرين، خاصة عبر الحدود الشرقية مع بيلاروسيا، وعلى خلفية اتهامات لبيلاروسيا وروسيا بـ"استخدام المهاجرين سلاحاً سياسيّاً"، أقامت بولندا في 2022 جدارًا حدوديًا لمنع الدخول غير النظامي.
لكن البيانات الرسمية تكشف أن هذا الجدار لم يكن حاجزًا فعّالًا، حيث تم تسجيل أكثر من 15 ألف محاولة عبور غير قانوني في النصف الأول من عام 2025، نجح منها حوالي 5%. وفي عام 2024، بلغت المحاولات 30 ألفًا، نجح منها أكثر من 10 آلاف
ومع اشتداد الأزمة، بدأت أحزاب اليمين المتطرف في بولندا بالتصعيد الخطابي، مدعية أن المهاجرين يزاحمون البولنديين على الوظائف، ويهددون "أسلوب الحياة الأوروبي"، هذا الخطاب تكرّس على منصات الإعلام المحلي وصفحات التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت نظريات مؤامرة حول "أسلمة بولندا" و"غزو إفريقي" مزعوم.
انتقادات حقوقية
رغم أن نسبة الأجانب في بولندا لا تتجاوز 2.2% من عدد السكان وفق تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2024، وهي نسبة متدنية جدًا مقارنة بألمانيا (18.2%) أو فرنسا (13.8%)، إلا أن هذا الخطاب لاقى رواجًا لدى فئات واسعة من الجمهور.
في مارس 2025، أقدمت بولندا على تعليق حق طلب اللجوء بالكامل، في خطوة انتقدتها منظمات حقوقية باعتبارها انتهاكًا مباشرًا للاتفاقيات الدولية، ورغم الطابع المؤقت لهذا القرار، فإن أثره كان مدمّرًا على آلاف المهاجرين العالقين على الحدود، خاصة من دول مثل سوريا وأفغانستان والسودان.
وأمام غياب آليات فعالة لإعادة التوطين أو توفير الحماية، ظل كثير من هؤلاء المهاجرين عرضة لظروف معيشية كارثية، دون مأوى أو مساعدات.
ناقوس الخطر
انتقدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين مرارًا سياسات بولندا تجاه المهاجرين، معتبرة أنها تنتهك مبدأ “عدم الإعادة القسرية” المنصوص عليه في اتفاقية جنيف لعام 1951.
بدورها، نددت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بـ"الطرد الجماعي للمهاجرين، وحرمانهم من الحق في تقديم طلبات اللجوء، والتعرض لممارسات عنيفة على أيدي حرس الحدود".
وقالت "العفو الدولية" في تقريرها لعام 2025: "السلطات البولندية تسعى لتحويل البلاد إلى حصن مغلق في وجه اللاجئين، في حين تستمر في ممارسة سياسات انتقائية بناءً على الخلفية العرقية أو الدينية للمهاجرين".
ولا يمكن الحديث عن أزمة الهجرة في بولندا دون التوقف عند المفارقة في معاملة اللاجئين الأوكرانيين مقارنة بالمهاجرين من دول إفريقيا والشرق الأوسط، فبينما تم استقبال نحو 3.6 مليون لاجئ أوكراني منذ بداية الحرب بترحيب واسع وتوفير للسكن والتعليم والرعاية، يُعامل المهاجرون الآخرون كأنهم تهديد أمني.
هذا التباين يعكس ما وصفته الأمم المتحدة بـ"المعايير المزدوجة" في تطبيق حقوق الإنسان، ويثير تساؤلات حول النزعة العرقية المتصاعدة في السياسات الأوروبية عمومًا، والبولندية خصوصًا.
التاريخ والخوف من الآخر
بولندا بلد ذو غالبية سكانية متجانسة دينيًا وعرقيًا، ظلّ لعقود بعيداً عن موجات الهجرة الكبرى التي عرفتها أوروبا الغربية، ومع انضمامها للاتحاد الأوروبي عام 2004، بدأت تدريجيًا تستشعر "الخطر الثقافي"، كما يسميه بعض السياسيين، وهو الخوف من فقدان الهوية الكاثوليكية والوطنية أمام موجات "الغرباء".
لكن هذا الخوف لا يعكس واقعًا ديموغرافيًا ملموسًا بقدر ما يعكس هشاشة في الخطاب السياسي، واستعدادًا لجعل الفئات الهشة من المهاجرين كبش فداء لمشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة.
ووفق القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، يُمنع أي بلد من إعادة طالب لجوء إلى مكان قد يتعرض فيه للاضطهاد، كما تُلزم المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الدول باحترام حق الإنسان في طلب اللجوء.
لكن التطبيق على الأرض في بولندا يبدو مغايرًا تمامًا، فبدلاً من تعزيز آليات الحماية، تُصعّد الحكومة من إجراءات الردع، في حين تتغاضى مؤسسات الاتحاد الأوروبي -غالبًا لأسباب سياسية- عن هذه الانتهاكات.
وتشير تجارب دول أخرى إلى أن العداء للمهاجرين لا يحل الأزمات الاقتصادية، بل يخلق أزمات أخلاقية ومجتمعية أشد تعقيدًا، وإذا كانت بولندا تطمح للعب دور محوري في مستقبل أوروبا، فإن ذلك لن يتحقق بسياج من الأسلاك، ولا بخطابات الكراهية، بل باحترام الإنسان أيًّا كان لونه أو دينه أو موطنه.
ويؤكد مراقبون حقوقيون أن تصاعد العداء للمهاجرين في بولندا ليس مجرد أزمة هجرة، بل اختبار لقيم أوروبا، ومرآة لحالة الهشاشة السياسية والأخلاقية التي تواجهها القارة، وإذا لم يتم كبح هذا الانحدار الآن، فإن تداعياته قد تتجاوز الحدود والأسوار، لتطول جوهر الفكرة الأوروبية نفسها.