الأرض التي لا تنام.. ألغام الحرب تواصل حصد الأرواح في سوريا
الأرض التي لا تنام.. ألغام الحرب تواصل حصد الأرواح في سوريا
رغم أن أصوات المدافع قد خفت في كثير من مناطق سوريا، فإن الموت لا يزال يترصّد بالمدنيين تحت التراب، متخفّيًا في باطن الأرض، على شكل ألغام وأجسام متفجرة خلفتها سنوات الحرب الطويلة، فبينما يحاول السوريون النجاة من خراب طال البشر والحجر، تقف مخلفات الحرب معوّقًا جديدًا، وقاتلًا صامتًا يحصد الأرواح بلا إنذار.
في حادثة موجعة جديدة، وقعت أمس الأربعاء، فقدت امرأة وطفلاها حياتهم في لحظة واحدة، إثر انفجار لغم أرضي أثناء مرور سيارتهم قرب بلدة سكيك في محيط خان الشيح، بريف دمشق الغربي.
كانت العائلة تمر عبر المنطقة عائدة من مدينة إدلب؛ بحثًا عن حياة أكثر أمنًا، لكن طريق العودة تحول إلى فخ موت، الزوج والابنة الصغيرة أُصيبا بجروح خطيرة، ولا تزال حالتهما حرجة، والأم وطفلاها لفظوا أنفاسهم الأخيرة بين أنقاض الحطام والألم.
مسلسل القتل الصامت
ليست هذه المأساة استثناءً، بل هي فصل جديد في مسلسل القتل الصامت الذي تسببه مخلفات الحرب في سوريا.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل منذ بداية العام الجاري 495 شخصًا بسبب انفجار الألغام أو الذخائر غير المنفجرة، من بينهم 141 طفلاً و32 امرأة.
وأُصيب 538 آخرون بجروح، منهم 239 طفلًا و14 امرأة، بعضهم أُصيب بعاهات دائمة، وآخرون ما زالوا في انتظار علاج غير متاح في كثير من المناطق.
في بعض القرى النائية، يخشى الأهالي من حراثة أراضيهم، أو إرسال أطفالهم إلى المدرسة عبر الطرق الترابية، الأرض نفسها تحولت إلى مصدر خوف، إذ لا توجد إشارات واضحة تدل على مواقع الألغام، ولا خرائط تُظهر أماكن الخطر.
كثير من هذه المخلفات دُفنت عشوائيًا أو انفجرت جزئيًا أو تغير موقعها بفعل الأمطار، لتتحول المناطق الزراعية والطرقات المهجورة إلى حقول موت.
ضحايا من العائدين
أصعب ما في الأمر أن الضحايا في الغالب هم من العائدين إلى بيوتهم بعد سنوات من النزوح، أولئك الذين دفعتهم الحاجة والفقر والرغبة بالاستقرار إلى العودة رغم المخاطر.
ومع غياب حملات إزالة الألغام بشكل فعّال، وندرة الموارد والخبرات المحلية، يبقى المدني السوري عالقًا بين فكيّ كماشة؛ حيث أرض محاطة بالخطر، وسلطة عاجزة عن الحماية.
الناجون من هذه الحوادث يواجهون حياة مشوهة بالوجع، أطفال فقدوا أطرافهم قبل أن يتعلّموا كيف يمشون بثقة، نساء تُركن بلا معيل، ومزارعون خسروا أراضيهم أو قوت يومهم، الألم لا ينتهي عند حدود الإصابة، بل يمتد إلى عجز نفسي واجتماعي واقتصادي، يرافق الضحايا طيلة العمر.
جراح في ذاكرة الوطن
الوضع يفرض تحديًا إنسانيًا عاجلًا، فالألغام ومخلفات الحرب في سوريا ليست فقط قنابل مؤجلة، بل هي جراح مفتوحة في ذاكرة وطن يئن من تبعات الحرب.
ولا يمكن لأي حديث عن "إعادة إعمار" أو "استقرار" أن يكون ذا جدوى ما دامت الطرق غير آمنة، والأراضي الزراعية غير صالحة، وبيوت السكان محفوفة بالخطر.
وفي نهاية المطاف، فإن إزالة الألغام ليست ترفًا، بل ضرورة إنسانية عاجلة، ومع كل يوم تأخير، هناك احتمال جديد لفقدان حياة بريئة أخرى لا تعرف شيئًا عن الحرب، سوى أنها لم تنتهِ بعد، حتى وإن صمتت البنادق.