على أرض الواقع.. هل يواجه برنامج العدالة الانتقالية في إثيوبيا أزمة مصداقية؟
على أرض الواقع.. هل يواجه برنامج العدالة الانتقالية في إثيوبيا أزمة مصداقية؟
إثيوبيا على حافة مفترق تاريخي، حيث باتت لديها سياسة وطنية للعدالة الانتقالية وخريطة طريق تنفيذية، لكن أمام هذه الطموحات يطغى سؤال مبدئي.. كيف تكسب هذه الآليات شرعيةً فعلية لدى ملايين الضحايا والمجتمعات المتضررة حين تُنظّم وتُدار في ظل صراعات مستمرة، وضيق في الحيز المدني، ومخاوف من استغلال العملية لتطبيع الإفلات من العقاب؟
تقف الإجابة عن هذا السؤال بين مسارين واضحين: إما أن تتحول السياسة إلى آلية حقيقية للمساءلة والشفافية وإصلاح المؤسسات، أو أن تصبح مجرد مسوّغٍ لإملاءات سياسية تبقى دون أثر على أرض الواقع وفق منصة "Opinio Juris".
في 17 أبريل 2024 اعتمدت الحكومة الإثيوبية سياسة وطنية للعدالة الانتقالية بعد عمل فريق خبراء وعمليات تشاور رسمية، وأعدّ مكتب الوزارة خريطة طريق للتنفيذ ووضعت مقترحات لمؤسسات مثل مفوضية الحقيقة ومكتب نيابة خاص وهيئات التعويضات، هذا التقدّم التشريعي شكل خطوة نوعية رسمية تُعتدّ بها إقليمياً ودولياً، لكنه يحتاج لآليات عملية تضمن استقلالية هذه المؤسسات وحمايتها من التدخلات السياسية.
أين تقف المساءلة؟
سبق لبعثة التحقيق المشتركة بين لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية والمفوضية الأممية أن وضعت توصيات واسعة (تضمنت أكثر من ستين توصية) لمعالجة الانتهاكات وفرض المساءلة عن الجرائم الدولية، هذه التوصيات تشكل خريطة قانونية مهمة، لكن تنفيذها يتطلب إرادة سياسية ملموسة وإطاراً مستقلاً للتنفيذ، وألّا تبقى مجرد نصوص صالحة للقراءة لا للتطبيق، وفق موقع" ohchr"
أولى الانتقادات العملية للبرنامج تشير إلى أن مشاورات التحقق والتصديق عُقدت بشكل محدود وعجول، وأن الكثير من الضحايا والمكونات السياسية والجماعات المنكوبة لم يُمنحوا مساحة حقيقية للمشاركة، وهذا الإقصاء يولّد شعوراً بأن البرنامج مفروض من القمة، ما يقوّض ملكية المجتمع وحق الضحايا في كتابة سياقهم التاريخي.
ويحذر النقاد من أن شرعية أي عملية انتقالية تُبنى على مشاركة ملموسة وشفافة لا على قراراتٍ وفاقية تُعلن عبر الصدور الحكومية فقط.
عمق التشرذم الاجتماعي
تكافح إثيوبيا صراعات متعددة في ولايات عدة، وهذا الواقع جعل من ملايين الناس مشردين داخلياً ومحرومين من خدمات أساسية، بينما تقيّد السيطرة المسلحة قدرة المنصّات على إجراء مشاورات آمنة وشاملة.
بحسب تقديرات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة، هناك ملايين نازحين داخلياً ومحتاجين إنسانياً، وهو ظرف يضع العدالة الانتقالية أمام معضلة: كيف تُجرى مصالحة وطنية عندما لا يُمكن لملايين الضحايا المشاركة أو الوصول إلى مرافق العدالة؟ وفق موقع ريليف ويب.
خلال 2024 و2025 صعّدت السلطات خطواتها بشأن منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، أُغلقت مئات المنظمات وُوقفت أنشطة جمعيات حقوقية بارزة، ما قلّص قدرة المجتمع المدني على رصد الانتهاكات وتقديم توصيات مستقلة ومساءلة الحكومة، وهذا التضييق يضرّ مباشرة بمقوّمات الشفافية والمساءلة الضرورية لأي برنامج عدالة انتقالية ذي مصداقية، وفق "منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش".
تتضمن السياسة الحكومية في إثيوبيا بنوداً لإنشاء مؤسسات قضائية خاصة، منها مكتب نيابة خاص ومحكمة متخصصة، لكنها تواجه رفضاً أو شكوكاً من جهات وطنية ودولية خشية أن تُستخدم هذه الآليات لنتائج انتقائية أو لتبرئة متورطين بفعل غياب الضوابط المستقلة، ويفرض القانون الدولي التزامات واضحة لملاحقة الجرائم الدولية وضمان محاكمات عادلة، و أي تباين بين هذه المعايير والآليات المحلية سيُضعف الشرعية الدولية للبرنامج ويُعقّد إمكانية تعاون الشركاء الخارجيين. بحسب "هيومن رايتس ووتش".
طريق لاستعادة الشرعية
تؤكد العديد من المنظمات الحقوقية وعلى رأسها "هيومن رايتس ووتش" ضرورة توسيع المشاركة الحقيقية من خلال إطلاق مشاورات جديدة موسّعة، تضمن تمثيلاً فعلياً للضحايا، والنساء، والنازحين ومنظمات الشتات، مع وثائق مرحلية تُعرض للنقاش العام، وأيضا استقلالية مؤسسات العدالة من خلال تفعيل ضمانات قانونية لحماية مفوضية الحقيقة، ومكتب النيابة الخاصة، والمحاكم المتخصصة من التدخل السياسي، مع آليات دولية مشتركة للمراقبة والتدقيق.
وشددت على ضرورة الربط بين السلم والأمن وإيقاف الصراعات أو تقليصها عبر تسويات محلية وإقليمية يسبقها وقف دائمي للأعمال العدائية، لأن العدالة لا تُبنى في مناطق تخضع للعنف الجاري، وأيضا حماية المجتمع المدني وحرية الإعلام من خلال إعادة فتح الحيز القانوني للمنظمات المستقلة ووقف إجراءات الإغلاق التعسفي، لضمان قدرة المجتمع المدني على التوثيق والمحاسبة، إضافة إلى وضع مؤشرات قابلة للقياس وزمن تنفيذ واضح بشأن (إطلاق سراح رموز محلية، وفتح ملفات، وتعويضات مرحلية) مع مراجعة عامة كل ستة أشهر بحضور دولي مستقل.
العدالة الانتقالية في إثيوبيا ليست مشروعا قانونيا فحسب، بل رهين حياة وكرامة ملايين بشرٍ ينتظرون اعترافاً حقيقياً بما حلّ بهم، وتعويضاً رمزياً وعملياً، وضمانات بعدم تكرار الألم، وعملية إنقاذ شرعية هذا البرنامج ممكن لكنا تتطلب شجاعة سياسية حقيقية من الحكومة، والتزاماً ملموساً من الشركاء الدوليين، وصبر الضحايا الذين أرهقهم تاريخ طويل من الوعود الفارغة، فالشرعية تُبنى بالممارسات اليومية أكثر مما تُكتب في السياسات؛ وعلى كل الأطراف الاختيار بين الإضفاء المزيف للمصداقية أو الانخراط في مسار صعب لكنه قادر على إحداث تحول حقيقي.
اتفاقية وقف الأعمال العدائية
يذكر أن اتفاقية وقف الأعمال العدائية بين الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا وجبهة تحرير شعب تيغراي وُقّعت في 2 نوفمبر 2022، وشكَّلَت نقطة انطلاق لبحث آليات العدالة.
على إثر ذلك شكلت وزارة العدل فرق خبراء وأقرت سياسة وطنية للعدالة الانتقالية في أبريل 2024، مع خريطة طريق تنفيذية.
وفي المقابل وثّق تحقيق مشترك بين لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية والمفوضية الأممية توصيات تفصيلية (أكثر من ستين توصية) لمساءلة الانتهاكات.
ومع ذلك، يواجه البرنامج تحديات كبرى منها استمرار النزاعات في مناطق عدة، نزوح داخلي بالملايين، وإجراءات إدارية قضت على نشاط المئات من منظمات المجتمع المدني، ما جعل ثقة الضحايا بالمبادرة ضعيفة، ودفع المجتمع المدني والمراقبين لمطالبة الحكومة بشروط واضحة لاستعادة الشرعية.