أزمات متراكمة.. وباء الكوليرا وانهيار الصحة العامة يهددان مستقبل اليمن
أزمات متراكمة.. وباء الكوليرا وانهيار الصحة العامة يهددان مستقبل اليمن
يعيد تفشي الكوليرا في اليمن وعمق انهيار النظام الصحي طرح سؤال مؤلم.. كيف تحول بلد كان يوماً مصدر حضارة إلى مسرح لاحتدام الأمراض وغياب العلاج؟ التفشيات المتكررة، والسیولة في انتقال الأمراض المعدية، وتقلص الخدمات الطبية، وانحسار التمويل الإنساني جعلت من اليمن بؤرة وبائية في الشرق الأوسط، وتظهر الأرقام الرسمية وبيانات المنظمات الإنسانية أن الأزمة ليست طبيعية فحسب، بل هي نتيجة تراكمية للصراع المسلح والسياسات التي عوقت وصول المساعدات وحماية البنى التحتية الصحية.
تشير دراسات ومتابعات الوكالات الصحية إلى أن اليمن سجّل منذ 2023 عشرات الآلاف من حالات يُشتبه أنها إسهال مائي، ووقائع واسعة من الكوليرا، إذ أظهرت حصيلة محدثة أن عدد الحالات المشتبه بها بين 2023 وحتى الأسبوع الوبائي 17 من 2025 بلغ نحو 282495 حالة مشتبه بها مع 909 حالات وفاة مرتبطة، ما يجعل التفشي مستمراً وذا تأثير واسع على الأطفال وسكان المناطق المحرومة، كما تحذر اليونيسف والمنظمات الطبية من أن نصف الحالات في موجات التفشي هم من الأطفال، وأن سوء التغذية يزيد من خطر الوفاة إذا لم يتلقَ المرضى علاجاً فورياً، وفق "اليونيسيف".
انهيار منظومة الرعاية
القطاع الصحي ينهار أمام أعين اليمنيين، حيث تعمل آلاف المنشآت بقدرة محدودة أو فقدت الدعم من الشركاء، وقد أضحت وظائف المستشفيات والمراكز الصحية غير كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية، وأدى تراجع دعم المرافق إلى خروج مئات المراكز عن الخدمة، وفقدان الإمدادات الأساسية والأدوية، مع تسجيل نحو 196 مرفق صحي فقد دعمه في 2024 ما أثر مباشرة على الوصول إلى الخدمات الطبية في أكثر من 80 مديرية.
وفي مقاييس واسعة، تقول تقارير إن نحو 17.8 مليون شخص يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، وأن نصف الأطفال الذين يحتاجون للتدخل العاجل في التغذية لا يتلقون رعاية كاملة، وهذه المؤشرات توضح أن الإغلاق المؤسسي والتحويلات التمويلية الفجائية تصب مباشرة في تفاقم الأوبئة.
أسباب مركبة
لا تُفهم الأزمة الصحية اليمنية بمعزل عن سياقها السياسي والعسكري، حيث تؤكد تقارير حقوقية وأممية أن أطراف النزاع تعوق وصول الإمدادات أو تفرض قيوداً بيروقراطية تعرقل الاستجابة، في حين تستهدف الضربات البنية التحتية الحيوية وتخلق بيئة من عدم الأمان للعاملين في المجال الإنساني.
كما أن تخفيض التمويل الدولي وإجراءات وقف أو تقليص بعض القنوات أدت إلى فقدان نقاط إسناد أساسية، ما جعل جهود الاستجابة المحلية عاجزة عن احتواء التفشيات المتسارعة.
ونبهت منظمات حقوقية ودولية من بينها منظمة العفو الدولية إلى أن هذه المعوقات تزيد من عدد الضحايا وتعرقل حملات الوقاية والتطعيم.
أمراض أخرى لا تقل خطورة
إضافة إلى الكوليرا، تواجه اليمن خطر انتشار فيروسات أخرى يمكن احتواؤها بالتطعيم والنظافة، بما في ذلك حالات من شلل الأطفال الناجمة عن سلالات متحورة للقاح (cVDPV2) تم رصدها داخل اليمن، وهو ما يعكس ضعف التغطية التحصينية ونقاط اختلال في نظام الترصد الوبائي.
وتعمل الجهات الصحية العالمية لحملات تطعيم مستهدفة، لكن نجاحها مرهون بإمكانية الوصول الآمن والتمويل الكافي وسلاسة اللوجستيات، غياب هذه العوامل يترك الباب مفتوحاً لانتقال الفيروسات بين المجتمعات المحرومة.
وأنذرت منظمات مثل أطباء بلا حدود ويونيسف ومنظمات حقوقية دولية أن تفشي الكوليرا نقطة فاصلة، فإما أن تتدخل الدول المانحة والجهات الفاعلة بسرعة لإعادة شبكة خدمات المياه والصرف الصحي ودعم المستشفيات أو أن نستعد لموجات واسعة من الوفيات.
ونبهت هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى إلى مسؤولية الأطراف في تسهيل مرور المساعدات وحماية العاملين الطبيين، محذرة أن عرقلة الإغاثة تشكل انتهاكاً للالتزامات الإنسانية والقانون الدولي، هذه التحذيرات تتكرر لكن تنفيذها يواجه عقبات سياسية وأمنية كبيرة على الأرض.
الإطار القانوني الدولي
ينص القانون الدولي الإنساني ومواثيق حقوق الإنسان على حماية الرعاية الصحية وضمان الوصول إلى المساعدة الإنسانية، كما تؤكد منظمات دولية أن الأطراف المتحاربة ملزمة بعدم استهداف المنشآت الصحية والسماح لحركة الإمدادات والعاملين الطبيين، وأن الدول يجب أن تضمن الحق في الصحة والوقاية والعلاج، وعدم احترام هذه الالتزامات يمكن أن يرقى إلى خروقات قانونية يجب التحقيق فيها، وفي الوقت نفسه يضع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية الضغط لضمان حماية المدنيين وإتاحة الخدمات الحيوية. وفق بيانات اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية.
تؤكد منظمات أممية منها اليونيسيف واللجنة الدولية للصليب الأحمر على ضرورة وقف أي عوائق في اليمن أمام دخول الإمدادات الطبية وحماية خطوط الإمداد وشبكات المياه، وكذلك ضخ تمويل طارئ لإعادة فتح ودعم ما لا يقل عن المئات من نقاط الرعاية الأساسية وإنعاش برامج الترصد والتطعيم، بجانب تنفيذ إجراءات حماية للعاملين الإنسانيين وضمان حمايتهم القانونیة والعملية.
خلاصة إنسانية وتحذير أخير
اليمن يواجه اليوم مشهداً مزدوجاً يتمثل في وباء متكرّر ونظام صحي يكاد ينهار، فمنذ 2014 وخصوصاً بعد 2015، دخل اليمن في حلقة عنف طويلة أضعفت شبكات الخدمات الأساسية بما فيها الصحة والمياه والصرف الصحي. تفشي الكوليرا لا يعد حدثاً عابراً بل نتيجة تراكمية لعقود من الإهمال، وتزايد الفقر، وتهدم البنية التحتية، وتوقف برامج الوقاية والتطعيم.
وحاولت جهود الإغاثة الدولية والوكالات الصحية ملء الفجوات لكنها اصطدمت بعراقيل أمنية وسياسية، وتراجع التمويل الدولي زاد الطين بلة.
اليوم، تكرار التفشيات يفرض إعادة تفكير جذري في استراتيجية التعافي الصحي وتعزيز صمود الخدمات الأساسية شرطاً لأي استقرار طويل الأمد، بحسب منظمتي "الصحة العالمية" و"اليونيسف".