من المِرآة إلى المطرقة.. كيف أَضعفت واشنطن مصداقية تقريرها العالمي عن الحقوق؟
من المِرآة إلى المطرقة.. كيف أَضعفت واشنطن مصداقية تقريرها العالمي عن الحقوق؟
لطالما شكّل التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية عن انتهاكات حقوق الإنسان في العالم مرجعا مؤثّرا للصحفيين والدبلوماسيين والمنظمات الحقوقية، حيث تُوثَّق الانتهاكات، ويُستند إليه عند فرض عقوبات أو تحديد سياسات المساعدات أو حماية طالبي اللجوء، ولكن هذا العام، ومع إعادة هيكلة جهاز الخارجية وإشراف قيادة جديدة ترى أن التقرير كان مُتحيّزا، ظهر النصّ المختلف حيث خفّف انتقاداته تجاه دولٍ حليفة لواشنطن بينما رصد بشدّة دولاً أخرى، وحذف أو قلّص فصولاً عن قضايا النساء وممارسات عنفٍ مبني على النوع والتمييز العرقي، والانتقادات الدولية كانت سريعة وقاسية حيث يقول منتقدون إن التقرير لم يعد أداة توثيق مستقلة بل صار مطية سياسية، وفق صحيفة "الغارديان".
تحوّل الأسلوب والمضامين
الاختلاف الأبرز في نسخة 2025 من التقرير الحقوقي ليس مجرد لغةً أخفّ أو ترتيبًا مختلفًا، إنه قائمة غيابات محسوسة، فمقاطع كاملة اختفت أو تقلّصت بشكل كبير خاصة تلك المتعلقة بأوضاع النساء، والتمييز العنصري والإثني بينما حُوِّل التركيز إلى انتقادات متزايدة لحرية التعبير في دول غربية وبعض الديمقراطيات التقليدية، في المقابل، طوعت مفردات اللغة إزاء دول أعلنت تأييدها لسياسات الإدارة الأمريكية أو تربطها علاقات قريبة مع البيت الأبيض، ويقول المنتقدون إن هذا ليس تطويعًا لغويًا فحسب بل إعادة توزيع لوزن المصطلحات وصلاحيات الإدانة، بحسب "هيومن رايتس ووتش".
نماذج تجلّي التباين
أحد الأمثلة التي اجتذبت انتباه المراقبين هو التخفيف الملحوظ في نقد المجر والسلفادور، علماً أن تقارير سابقة وصفت أوضاعاً متدهورة في براتيسلافا أو سجلات قمعية في سان سلفادور، أيضاً، فصل التقرير الخاص بإسرائيل والأراضي الفلسطينية جاء أقصر بكثير من العام الماضي، دون تفاصيل واضحة عن الحصيلة البشرية في غزة أو وصف واسع للأزمة الإنسانية، ما أدى إلى اتهامات بإخراج حجم المعاناة عن المشهد الرسمي الأمريكي، وأعطت هذه الأمثلة الانطباع بأن أداة التوثيق أصبحت مرنة لاعتبارات السياسة الخارجية بدل أن تكون معياراً ثابتاً للحكم على الأوضاع.
إعادة هيكلة وإقصاء الخبرة المهنية
لا يمكن فهم الموجة بدون النظر إلى تغييرات هيكلية تمت داخل وزارة الخارجية الأمريكية من خلال فصل وتسييس وظائف، وتهميش الخبراء المهنيين الذين كانوا يشرفون على جمع الأدلة وتحليلها، وإطلاق مكاتب جديدة عنوانها “الديمقراطية والقيم الغربية” تُعيد صياغة الأولويات، وقد تحدثت تقارير صحفية عن خفض عدد الموظفين الحكوميين في دوائر التقرير وتغييرات إدارية أثّرت على سقف ما يُسمح بنشرِه وكيفية عرضه، هذه التحولات تُترجم عملياً إلى تقرير أقصر وأحكام أقل تفصّلاً عن انتهاكات حسّاسة.
ردود فعل منظمات حقوق الإنسان والبرلمانيين
“ هيومن رايتس ووتش” وصفت التقرير الأمريكي بأنه اختلطت فيه الوقائع بالتمويه السياسي، مطالبة بإعادته إلى مساراته المهنية المستقلة، في حين وصفت منظمة العفو الدولية الخطوة بأنها "وضع السياسة فوق الأرواح"، كما أطلق أعضاء من الكونغرس الأمريكي ووزراء سابقون تحذيرات من أن تسييس التقرير سيقوّض قدرة الولايات المتحدة على حمل الحكومات المسؤولة على المساءلة، ويضعف دور واشنطن في دعم ضحايا الانتهاكات دولياً.
تغيّر نبرة ومضمون التقرير لا يضرّ فقط بالسمعة، بل له نتائج مباشرة؛ فآليات منح الحماية واللجوء تستند في حالات كثيرة إلى توثيقات رسمية، والمنظمات المانحة تصمّم برامج استجابة بناءً على تقييمات من هذا النوع، وعندما تُحجم قضايا معينة مثل العنف القائم على النوع أو أرقام القتلى في مناطق النزاع فإن الأشخاص الأكثر عرضة للخطر يفقدون حججاً حيوية أمام محاكم ومنظمات إغاثة ويحذر الحقوقيون من أن الضحايا الذين اختفوا من صفحات التقرير هم ضحايا مختفون فعلاً عن عدسة الاهتمام الدولي.
تحسين القابلية للقراءة أم تعديل السياسات؟
السلطة المدافعة عن الإصلاحات تقول إن التقرير كان بحاجة لتجديد عبر الاختصار، وضبط لغة "النصائح" التي تحولت إلى ما يشبه منصة نشاطات سياسية داخل الدبلوماسية، وجعل التقرير أكثر قابلية للاستخدام في قرارات سياسية واضحة، كذلك برّرت قيادة الخارجية أن هناك تحسّناً تنظيمياً يهدف إلى تركيز التقرير على مواضيع الحرية السياسية وحرية التعبير.
معايير القانون الدولي والشفافية المطلوبة
القانون الدولي لا يلزم الأبحاث الأمريكية بطريقة تقنية، لكن ما يميّز التقرير الأمريكي تاريخياً هو الشفافية في المنهجية والاستناد إلى مصادر متعددة منها أممية، وطنية، منظمات مجتمع مدني، وما يطالب به الحقوقيون الآن ليس مجرد استعادة لغة سابقة، بل استعادة آلية مهنية تشمل ضمان وصول الخبراء، ونشر منهجية واضحة، وإتاحة ملفات دعم للتقارير، والحفاظ على استقلالية المضمون وفق "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية".
وأكدت المنظمات الحقوقية أن تحوّل التقرير من مرآة موضوعية إلى أداة يمكن توجيهها يؤثر على مصداقية الولايات المتحدة دولياً وعلى حياة الناس المعرّضين للخطر، وأن الحل لا يكمن في العودة إلى نصٍّ طويل فحسب، بل في ضمان أدوات استقلالية مهنية.