منظمة حقوقية: التقرير الأمريكي لحقوق الإنسان تحوّل من أداة ضغط إلى وسيلة تبرير
منظمة حقوقية: التقرير الأمريكي لحقوق الإنسان تحوّل من أداة ضغط إلى وسيلة تبرير
أشعل انتقادُ هيومن رايتس ووتش تقريرَ وزارة الخارجية الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 2025 نقاشاً واسعاً حول مصداقية أحد أهم المراجع الحكومية في تقييم أوضاع الحقوق عالميا، فقد اعتبرت المنظمة أن الإدارة الأمريكية أسقطت عمدا فئات جوهرية من الانتهاكات وقلّمت أجزاء حساسة تخص دولا حليفة، ما حوّل التقرير في نظرها إلى وثيقة انتقائية تُضلّل صانعي السياسات وتُقوّض حماية طالبي اللجوء والمدافعين عن الحقوق.
جاء ذلك عقب إصدار التقرير في الثاني عشر من أغسطس الجاري، بصيغة مختصرة قياسا بالسنوات الماضية، ومن دون الإحاطة التقليدية رفيعة المستوى، وهذا المسار أثار أسئلة عن حدود استقلالية عملية الرصد حين تتقاطع مع أولويات السياسة الخارجية للحكومة القائمة.
تركّز نقد المنظمة الحقوقية على حذف أو تقليص أبواب طالما شكّلت عمودا فقريا للتقارير، مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي، والانتهاكات ضد مجتمع الميم، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والفساد، وحرية التجمع السلمي، كما اتُّهمت الخارجية بتخفيف لهجتها حيال حلفاء سياسيين، وبخاصة في ملفات شائكة تتصدرها الحرب على غزة والسجل الأمني في السلفادور، مقابل تشديد غير متوازن تجاه بلدان ذات علاقات متوترة مع واشنطن، وتؤكد مراجعات إعلامية مستقلة أن النسخة الجديدة خضعت لإعادة هيكلة جذرية تحت شعار التبسيط والمواءمة مع أولويات الإدارة، ما يعزّز من وجاهة مخاوف التسييس بحسب "هيومن رايتس ووتش"
نماذج للازدواجية المزعومة
تقول هيومن رايتس ووتش إن التقرير تجاهل توصيفا صريحا لسياسات إسرائيل بشأن التهجير القسري الجماعي في غزة، واستخدام التجويع ومنع الإمدادات الأساسية بما يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما خفّف توصيفاته لدمار البنية التحتية المدنية.
وفي المقابل، جاء توصيف السلفادور أقرب إلى التبرئة رغم وفرة تقارير عن الإعدام خارج القانون والاختفاء القسري وسوء المعاملة داخل منظومة الأمن والسجون في سياق حملة الحكومة على العصابات، هذه الانتقائية، وفق المنظمة، لا تُضلّل الرأي العام فقط، بل تُربك قضاة اللجوء والكونغرس والوكالات التنفيذية التي لطالما اعتمدت على التقارير كأداة فحص أساسية.
رد وزارة الخارجية
تدافع الخارجية الأمريكية عن التصميم الجديد للتقرير الحقوقي باعتباره محاولة لجعل الوثيقة أكثر فائدة ووضوحا وتقليلا للتكرار، وتقول إن أجزاءً كبيرة أُعدّت في عهد الإدارة السابقة ثم نُقّحت لتتوافق مع التفويض التشريعي واحتياجات الشركاء.
لكن خبراء سابقين في الوزارة ومسؤولين عملوا لسنوات على إعداد التقارير يرون أن ما جرى لم يكن مجرد تحرير لغوي أو اختصار تقني، بل إعادة تعريف لما يُعدّ انتهاكا جديرا بالتوثيق، وهو ما يغيّر طبيعة الأداة برمّتها.
لم تكن هيومن رايتس ووتش وحدها، فقد حذرت منظمات أمريكية ودولية من أن خفض سقف الرصد في أبواب حساسة سيُنتج فجوة معلوماتية خطرة ويمنح حكومات ذات سجل مثير للقلق غطاء سياسيا، وانتقدت تقارير صحفية مرموقة عملية تقليص أبواب الفساد والحقوق المدنية، والإصرار على إبراز ملف حرية التعبير في أوروبا على نحو غير متوازن قياسا بملفات جسيمة في مناطق نزاع وحكم سلطوي، وفي موازاة ذلك، ذكّرت منظمات مثل منظمة العفو الدولية بأن أي توثيق حكومي يفقد معاييره المتسقة يصبح عبئا على أصحاب القرار بدل أن يكون دليلا عمليا لهم.
أداة عالية المخاطر
تاريخيا، نشأت التقارير عملاً بتكليف من الكونغرس في السبعينيات بموجب قانون المساعدات الخارجية، لتُستخدم في تقييم أهلية المساعدات وصفقات السلاح، وفي ضبط ما يعرف بقوانين ليهي التي تحظر دعم وحدات أمنية أجنبية متورطة في انتهاكات جسيمة.
كما يستند إليها قضاة الهجرة في قضايا اللجوء لتحديد احتمال التعرّض للاضطهاد، وإن أي تلاعب بالتصنيفات أو إسقاط لأبواب أساسية يبدّل نتائج ملموسة في الملفات المالية والعسكرية والقضائية، ووصفت وكالة أبحاث الكونغرس التقرير بأنه مورد لا غنى عنه لإشراف الكونغرس وإرشاد صانعي السياسات، وترى أن شرخ الموثوقية ينعكس مباشرة على قرارات التمويل والرقابة.
تُحيل الأزمة إلى سؤال أوسع عن حدود الالتزام الأمريكي بالمعايير الدولية التي وقّعت عليها الولايات المتحدة، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فحين تَضعُف الدقة والاتساق في التقارير، يصبح تفعيل أدوات القانونين الداخلي والدولي أكثر صعوبة، لأن الوقائع الرسمية نفسها تتراجع عن تسمية الانتهاكات بمسمياتها.
وفي حالات مثل غزة، تتقاطع التزامات القانون الإنساني الدولي مع قيود قوانين ليهي، ما يفترض أن يقود إلى تدقيق أشدّ لا إلى تخفيف في لهجة التوصيف.. والمنافسة الجيوسياسية لا تعفي الحكومات من واجباتها الدولية، ومعايير الضرورة العسكرية أو الأمن القومي لا تبرر إسقاط حماية الفئات الأكثر عرضة للانتهاك.
خلفية تزيد الحاجة إلى الشفافية
يتزامن الجدل مع منحنى هابط واسع في أوضاع الحقوق عالميا، حيث يوثق تقرير فريدوم هاوس لعام 2025 للسنة التاسعة عشرة على التوالي تفوق الدول المتراجعة على المتحسنة في مؤشرات الحقوق السياسية والحريات المدنية، إذ شهدت ستون دولة تراجعا في عام 2024 مقابل تحسن محدود في أربع وثلاثين فقط.
بينما طاول التدهور أكثر من أربعين في المئة من سكان العالم. في مثل هذه البيئة، يصبح توثيق دقيق وخال من الحسابات السياسية شرطا لسياسات خارجية متسقة ومسؤولة.
انعكاسات على طالبي اللجوء
تقول المنظمات إن أكثر المتضررين من تسييس التقارير هم الأفراد الذين يعتمدون عليها لإثبات وجود نمط اضطهاد في بلدانهم. إنكار انتهاكات جسيمة أو تقليل شأنها قد يترجم رفضا لطلبات حماية كان ينبغي قبولها، كما قد يمنح حكومات قمعية فرصة لتبييض السمعة في المنتديات الدبلوماسية، ويفسد أدوات مثل العقوبات المرتبطة بحقوق الإنسان، والمدافعون داخل البلدان المغلقة الذين اعتادوا الاستناد إلى التقارير بوصفها إسنادا رمزيا وعمليا، سيجدون أنفسهم أمام وثيقة بوزن سياسي أثقل من وزنها المهني.
يبرز في نسخة 2025 حضور طاغٍ لملف حرية التعبير في ديمقراطيات غربية، مع نبرة تركز على القيود التنظيمية ومناخ النقاش العام، وهو ملف مشروع التناول، لكنه لا يغني عن الالتفات للتعذيب والإخفاء القسري والإعدامات خارج القانون والقمع البنيوي للمجتمع المدني في عشرات البلدان، المفارقة أن التركيز الانتقائي على ملف واحد داخل بيئات قانونية تشهد آليات مساءلة مؤسسية، يقابله تمييع لملفات أشد جسامة في بيئات بلا مساءلة، وهو ما يخلق انطباعا بأن الأولوية ليست للضحايا، بل لتسجيل نقاط سياسية.
ما الذي ينبغي فعله الآن
توصي منظمات حقوقية بإعادة إدراج الأبواب التي حُذفت أو قُلّصت، ونشر منهجية علنية مفصلة توضح مصادر المعلومات وآليات التحقق ومعايير اختيار الوقائع واللغة، وإتاحة مسارات تظلم للخبراء والضحايا عند رصد أخطاء جوهرية، كما تدعو الكونغرس إلى الاستناد إلى بدائل موثوقة من تقارير الأمم المتحدة والمنظمات المستقلة حين تضعف مصداقية المصدر الحكومي، وإلى ربط المساعدات والصفقات بمعايير واضحة قابلة للقياس. ويتطلب ذلك أيضا إعادة الاعتبار لخبرة الكوادر المهنية في الوزارة، والامتناع عن أي تدخلات سياسية تعيد صياغة الواقع بما يوافق هوى السلطة التنفيذية.
تقرير وزارة الخارجية الأمريكية لحقوق الإنسان ظل لعقود وثيقة كثيفة المعطيات تسد فجوات معلوماتية أساسية لدى صناع القرار والقضاة والباحثين، أما نسخته الأخيرة، كما تقول هيومن رايتس ووتش وسواها، فقد انزلقت نحو خطاب انتقائي يهدد بتحويل الأداة من رافعة حماية إلى غطاء سياسي، لافتة إلى أن الإصلاح ممكن ومطلوب، ولا يبدأ بإلغاء التقرير بل باستعادة مهنته الأصلية من خلال رواية الوقائع بلا تزيين، والالتزام بمنهجية شاملة ومتسقة، وتقديم صورة دقيقة للعالم كما هو، لا كما تريده الحكومات.
تعود إلزامية تقارير حقوق الإنسان إلى تعديلات منتصف السبعينيات على قانون المساعدات الخارجية، ولا سيما المادتين 116 و502 ب، التي ربطت المساعدة الأمريكية بأوضاع الحقوق في الدول المتلقية، ثم توسعت بمرور الوقت لتشمل طيفا واسعا من الانتهاكات في كل بلد تقريبا، وتُستخدم التقارير في الرقابة البرلمانية على المساعدات وصفقات السلاح، وفي تطبيق قوانين ليهي التي تحظر الدعم للوحدات الأمنية الأجنبية المتورطة في انتهاكات جسيمة، كما تُستند إليها محاكم اللجوء لإثبات احتمالات الاضطهاد، لهذا السبب، ترتبط مصداقيتها مباشرة بسلامة قرارات تمس الأرواح والموارد والنفوذ الأمريكي حول العالم.