في مواجهة دعاوى التشهير.. قضية كلارك انتصار تاريخي ضد محاولات إسكات الضحايا
في مواجهة دعاوى التشهير.. قضية كلارك انتصار تاريخي ضد محاولات إسكات الضحايا
في مشهد قضائي حاسم أعاد رسم حدود العلاقة بين سلطة النفوذ وقوة الكلمة، رفضت المحكمة العليا في لندن دعوى التشهير التي رفعها الممثل البريطاني نويل كلارك ضد صحيفة "الغارديان"، الحكم الذي استند إلى دفاعي "الحقيقة" و"المصلحة العامة"، واعتبر مقالات الصحيفة حول مزاعم سوء السلوك الجنسي "صحيحة بشكل جوهري"، تحول سريعًا إلى ما وصفته منظمات نسائية بأنه "انتصار للضحايا ولحرية الصحافة على حد سواء".
بدأت القضية عندما نشرت "الغارديان" سلسلة مقالات وبودكاست، كشفت عن شهادات عشرين امرأة تتهمن كلارك بالتحرش الجنسي وسوء السلوك المهني على مدى خمسة عشر عامًا، المزاعم تنوعت بين الاتصال الجنسي غير المرغوب فيه، والتقبيل واللمس دون موافقة، وصولًا إلى التقاط ومشاركة صور ومقاطع فيديو فاضحة دون إذن.
ووفقا لصحيفة "فايننشيال تايمز"، رفع كلارك، الحائز جائزة "بافتا" والبالغ من العمر 49 عامًا، دعوى قضائية يطالب فيها بتعويض قدره 70 مليون جنيه إسترليني، معتبرًا أن هذه المزاعم "كاذبة" وأنه ضحية "مؤامرة غير قانونية" استهدفت سمعته وحياته المهنية، لكن مسار المحاكمة التي استمرت خمسة أسابيع كشف عن تفاصيل مغايرة تمامًا.
شهادات ورسالة المحكمة
خلال جلسات المحاكمة، استمعت المحكمة إلى 26 شاهدًا، أدلوا بإفادات مفصلة عن ممارسات كلارك، تتراوح بين التنمر في مواقع التصوير والتحرش المباشر.
ووفقا لصحيفة "الصن"، خلصت القاضية كارين ستاين، التي تولت النظر في الدعوى، في حكمها إلى أن الصحيفة أثبتت صحة دفاعها، وأكدت: "قبلت بعض أدلة السيد كلارك، لكنني عمومًا أجد أنه لم يكن شاهدًا موثوقًا به".
وذهبت المحكمة أبعد من ذلك حين وصفت مزاعم "المؤامرة" التي استند إليها كلارك بأنها "غير معقولة" و"تفتقر إلى أي أساس سليم"، مضيفة أن افتراض أن أكثر من عشرين شاهدًا قد اجتمعوا لاختلاق رواية موحدة هو "ادعاء عبثي".
ردود فعل نسائية
لم تتأخر ردود الفعل النسائية على الحكم، قالت المحامية هارييت ويستريتش، الرئيسة التنفيذية لمركز عدالة المرأة، إن القرار "خبر سار" ويمثل "ضربة موجعة للرجال الأثرياء والمشاهير الذين يعتقدون أن بإمكانهم استخدام المال لإسكات النساء".
فيما أشارت الرئيسة التنفيذية السابقة لمؤسسة "نيا" الخيرية، كارين إنغالا سميث، بحدة إلى أن "كلارك كان يمكنه بسهولة تجنب تسميته كمعتدي جنسي، فقط بعدم ارتكاب أفعال تُشكل تحرشًا جنسيًا".
وأضافت: "انضم الآن إلى قائمة الرجال الأثرياء المسيئين الذين حاولوا استخدام القانون للتقليل من شأن سلوكهم أو إنكاره، لكنهم فشلوا".
أما شارلوت برودمان، المحامية ومؤلفة كتاب "قال، قالت"، فرأت أن الحكم يمثل "لحظة فارقة للناجيات من سوء السلوك الجنسي وللصحافة الاستقصائية"، مؤكدة أن رسالة القرار واضحة: "يجب تصديق النساء، وعلى الصحفيين الذين يكشفون الانتهاكات أن يُنظر إليهم كجزء أساسي من منظومة المحاسبة".
وشددت مديرة ائتلاف إنهاء العنف ضد المرأة، أندريا سيمون، من جانبها على أن حرية الصحافة في هذا السياق ضرورة، لا سيما أن "الصحفيين غالبًا ما يُمنعون من الإبلاغ عن هذه القضايا بسبب التهديد بالإجراءات القانونية من أصحاب السلطة"، مؤكدة أن الحكم يفضح استغلال القانون لإسكات الناجيات.
"نصر مستحق" للنساء
وصفت رئيسة تحرير "الغارديان" كاثرين فينر، الحكم بأنه "نصر مستحق" للنساء اللواتي ظهرن في التحقيقات، مشيرة إلى أن "اللجوء إلى المحكمة أمر صعب ومرهق، ومع ذلك وافقت أكثر من عشرين امرأة على الإدلاء بشهادتهن". وأضافت: "آمل أن يشجع هذا اليوم نساءً أخريات في مواقف مماثلة، كنّ خائفات للغاية من رفع أصواتهن خوفًا من العواقب".
وأكدت فينر أن القرار يُعد "حكمًا تاريخيًا" ليس فقط لصحيفة "الغارديان"، وإنما للصحافة الاستقصائية في بريطانيا عمومًا، لأنه يثبت أن "التحقيقات التي تخدم المصلحة العامة يمكن أن تصمد أمام أقسى الاختبارات القانونية".
ومن الناحية القانونية، كان على "الغارديان" لإثبات دفاعها أن تُظهر للمحكمة أن مقالاتها "صحيحة جوهريًا"، وهو ما تحقق في النهاية، وأوضحت القاضية ستاين أن دفاع الصحيفة بموجب قانون التشهير استوفى شرطي "الحقيقة" و"المصلحة العامة"
وعلق المحامي إيان ويلسون، الذي لم يشارك في القضية، على الحكم قائلًا: "رفع كلارك هذه الدعوى في محاولة للدفاع عن سمعته، لكن القرار جاء بنتائج عكسية تمامًا".
ورأى أن الحكم، وإن لم يُشكل سابقة قانونية، يمثل انتصارًا بالغ الأهمية في سياق حركة "أنا أيضًا" (#MeToo)، إذ منح كلارك الإجراءات القانونية الكاملة، لكن المحكمة لم تصدقه في النهاية.
موقف كلارك
من جانبه، أعرب نويل كلارك عن "خيبة أمله" من الحكم، مؤكدًا أنه "لم يدّعِ يومًا أنه مثالي، لكنه ليس الشخص الموصوف في المقالات"، وأوضح أنه "خسر كل شيء" بسبب التغطية الإعلامية، من مسيرته المهنية إلى سمعته العامة.
ووفقا لصحيفة "الصن"، حاول فريقه القانوني الدفاع عنه عبر الزعم بأن المزاعم ملفقة، وأنه كان "ضحية" لحركة "أنا أيضًا"، كما أصر محاموه على أن مؤامرة دُبرت ضده من أشخاص سعوا إلى الإضرار بسمعته ومكانته، لكن المحكمة رفضت ذلك بشكل قاطع، مؤكدة غياب أي دليل على هذه المزاعم.
أثار الحكم نقاشًا واسعًا حول مستقبل الصحافة الاستقصائية في المملكة المتحدة، حيث رأى مسؤولون إعلاميون فيه دعمًا قانونيًا كبيرًا لنشر مقالات تخدم المصلحة العامة، ووفق "فايننشيال تايمز"، كان هناك قلق من أن أي حكم ضد "الغارديان" كان سيؤدي إلى "بيئة أكثر صعوبة لممارسة الصحافة الاستقصائية"، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا التحرش والسلطة.
والصحيفة نفسها اعتبرت أن الحكم بمثابة "درع قانوني" يعزز قدرة الإعلام على مواجهة محاولات الترهيب عبر دعاوى التشهير الباهظة الثمن، وهو ما يُعرف بـ"الدعاوى الكيدية لإسكات المشاركة العامة".
في النهاية، جاء الحكم بمثابة إعادة تأكيد على أن النفوذ والمال لا يمكن أن يكونا حصنًا يحمي المتهمين من المساءلة، وأن الصحافة الاستقصائية، حين تعمل وفق المصلحة العامة، تحظى بحماية القانون، وبالنسبة للمنظمات النسائية، كان هذا "انتصارًا للضحايا ورسالة واضحة بأن أصوات النساء تستحق أن تُسمع".
أما بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، فقد شكل الحكم "نقطة تحول" تتيح لها المضي قدمًا في تحقيقاتها دون خوف من إسكاتها بدعاوى باهظة، وبين هذين البعدين، يبقى الحكم شاهدًا على معركة طويلة بين من يسعى لإسكات الحقيقة ومن يدافع عنها، مع ترجيح كفة الأخير هذه المرة بوضوح.