من الصور الفضائية إلى شهادات الضحايا.. منظمة حقوقية تكشف جرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان
دعت إلى فتح تحقيقات جنائية
في ضربة جديدة لمشهد الانتهاكات المتصلة بالنزاع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، أصدرت منظمة العفو الدولية الثلاثاء تقريراً استقصائياً يتهم الجيش الإسرائيلي بتنفيذ حملة واسعة من تدمير الممتلكات المدنية والأراضي الزراعية في جنوب لبنان، ويدعو إلى فتح تحقيقات جنائية لبحث ما إذا كانت تلك الأفعال تندرج تحت تعريف جريمة الحرب.
التقرير، الذي يوثّق استخدام جرافات ومتفجرات يدوياً لتخريب منازل ومساجد ومقابر وطرقات وملاعب وسواها في 24 بلدة حدودية، يذكر أيضاً أن أكثر من عشرة آلاف منشأة تعرّضت لأضرار جسيمة أو دُمرت تماماً خلال الفترة التي يغطيها التحقيق، وأن كثيراً من عمليات التدمير وقعت بعد دخول وقف إطلاق النار بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني حيز التنفيذ.
دلالات الأدلة وطبيعتها
تعتمد منهجية العفو الدولية على تحليل مقاطع فيديو موثقة ومقاطع فوتوغرافية وصور أقمار صناعية، وتتضمن لقطات تُظهر جنوداً من الجيش الإسرائيلي يزرعون متفجرات داخل مبانٍ ويستخدمون جرافات في تجريف وحرق المساحات العامة والخاصة، ويسمح هذا الجمع بين الشهادات البصرية والتحليل الجغرافي المكثف للتقرير بوصف نمط من الأفعال التي تبدو منهجية ومنظمة، لا مجرد أضرار عرضية نجمت عن عمليات قتالية منفردة، وتكرار المشاهد المشابهة في قرى متعددة يعزّز استنتاج العفو الدولية بأن الأمر لم يقتصر على أخطاء ميدانية بل حمل صفة منهجية تستدعي فتح تحقيق دولي وطني مستقل.
تجاوز القانون الدولي الإنساني
تفيد العفو الدولية بأن هذه الحوادث تتجاوز نطاق ما يسمح به القانون الدولي الإنساني حتى في أوقات الحرب، حيث يدخل تقويض منشآت مدنية بشكل واسع ومنهجي، خصوصاً في غياب ما يبرّرها بحتمية عسكرية واضحة، ضمن الأعمال التي تصفها نصوص القانون الدولي كـ"تدمير واسع النطاق للممتلكات المدنية" وقد تؤدي إلى مساءلة جنائية، وتعد العتبات القانونية ذات الصلة محددة في قواعد القانون الدولي العرفي والبنود الواردة في نظام روما والتي تُعرّف "التدمير الواسع والممنهج للممتلكات" كأحد صور جرائم الحرب عندما لا يبررها ضرورة عسكرية ملحّة.
تقاطعات مع تقارير حقوقية وأممية أخرى
لا يكتفي ملف العفو الدولية بهذا المصدر الوحيد، فقد وثقت منظمات أخرى أيضاً ممارسات تنطوي على انتهاكات للقانون الدولي، منها هيومن رايتس ووتش التي وثّقت احتلال القوات لمقار تعليمية وتخريب ممتلكات مدارس في جنوب لبنان، واعتبرت بعض تلك الأفعال من قبيل النهب والتخريب التي قد ترتقي إلى جرائم حرب، كما أصدرت تقارير سابقة عن تدمير بنى تحتية أساسية ومنشآت صحية خلال موجات الضربات الإسرائيلية، ووثائق مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نبهت إلى حالات قتل مدنيين أثناء عودتهم إلى قراهم في الجنوب، تلك التقاطعات تدعم الاستنتاج بأن هناك نمطاً متكرراً من استهداف عناصر مدنية وبنى تحتية أساسية بحسب رأي المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
متى يُصبح التدمير جريمة حرب
يستند اختبار سقوط الفعل تحت بند جريمة الحرب إلى عناصر قانونية محددة تشمل وجود هجوم متعمَّد على أهداف مدنية أو تدمير للممتلكات لا تبرره ضرورة عسكرية، وطابع واسع النطاق أو منهجي، وإمكانية نسب الفعل إلى مسؤولين أو وحدة عسكرية بصورة تُثبت علمهم أو نيتهم.
تقرير العفو يقدم أدلة واقعية على اتساق التدمير عبر مساحة جغرافية ومدة زمنية، ويقول صراحة إن كثيراً من التدمير لم يُبرَّر عسكرياً بعد وقف إطلاق النار، وهو ما يجعل فتح تحقيق جنائي أمراً منطقياً وفق قواعد المادة 8 من نظام روما وعناصر القانون الدولي الإنساني، لكن إجراء تحقيق موثوق يتطلّب جمع أدلة أكثر تفصيلاً وربطها بمسؤوليات قيادية، وهو أمر يعترضه واقع سياسي وقانوني معقّد.
عوائق المساءلة وآليات المتابعة الممكنة
الطريق إلى مساءلة جنائية دولية ليس مفروشاً باليقين، فتحديات السيادة وعدم رغبة بعض الدول في إحالة طرف متهم إلى محاكم دولية، وامتناع دول فاعلة عن التعاون، كلها عوامل قد تعرقل تحريك قضايا أمام محكمة الجنايات الدولية أو آليات تحقيق دولية، ومع ذلك، ثمة سبل بديلة توصي بها منظمات حقوقية منها إجراء تحقيقات وطنية مستقلة وشفافة، أو تحقيق أممي مستقل يركّز على جمع الأدلة وحمايتها وتأمين سجلات يمكن لاحقاً استخدامها في محاكم دولية أو وطنية، كما يمكن لمجلس حقوق الإنسان أو لجان الخبراء الأممية أن تحوّل النتائج إلى محاكمات أو توصيات لخطوات تصحيحية ومالية، وتوضح تقارير سابقة للمحكمة الجنائية حول الوضع في فلسطين وتدخلات مكتب المدعي العام أن المسائل السياسية لا تمنع تماماً المسارات القانونية حين تتوفر إرادة دولية ولو جزئية.
الأثر الإنساني والاقتصادي
نتائج التدمير واسعة النطاق لا تقتصر على البنية العمرانية في جنوب لبنان بل تمتد إلى منع العودة، وفقدان سبل العيش، وتدمير محاصيل ومراعي وزيادة معدلات النزوح الداخلي، وارتفاع احتياجات إعادة الإعمار، كما أشار تقييم البنك الدولي إلى أضرار اقتصادية كبيرة جراء الحرب، واحتياجات استرداد وتعرُّف تُقدّر بأرقام متعددة تتراوح بين 11 مليار دولار لتغطية الاحتياجات العاجلة وما بعد ذلك كتكلفة اقتصادية كلية أعلى.
توصيات عملية قابلة للتطبيق
تقرير العفو والمنظمات الموازية يقدّم توصيات عملية منها: ضرورة إجراء تحقيقات جنائية مستقلة وشفافة على مستوى وطني أو دولي، وحفظ الأدلة وصونها، وتمكين وصول المراقبين الدوليين للقرى المتضررة، وتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للسكان المتأثرين، والالتزام بآليات التعويض وإصلاح الأضرار، كما تطالب المنظمات بتوقف أي ممارسات تهدد إمكانية العودة الآمنة للمدنيين وبتقديم ضمانات بعدم تكرار التجاوزات.
اندلعت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله في صيف عام 2024 واستمرت أكثر من عام، قبل أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2025، والذي نصّ على انسحاب حزب الله من جنوب نهر الليطاني وتفكيك بناه العسكرية هناك، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي سيطرت عليها خلال الحرب، غير أن إسرائيل أبقت على قواتها في خمسة مرتفعات استراتيجية، في خرق واضح للاتفاق.
وخلفت الحرب أكثر من 20 ألف قتيل بين المدنيين في لبنان، إضافة إلى نزوح عشرات الآلاف ودمار واسع في البنى التحتية، على الجانب الإسرائيلي، تكبدت المدن الحدودية خسائر بشرية ومادية كبيرة بفعل صواريخ حزب الله.