280 واقعة في عام واحد.. ما تداعيات اختراق اليمين المتطرف للجيش الألماني؟
280 واقعة في عام واحد.. ما تداعيات اختراق اليمين المتطرف للجيش الألماني؟
يكشف الارتفاع الملحوظ في حوادث التطرف اليميني داخل الجيش الألماني عن معادلة حساسة تمتحن قدرة برلين على المواءمة بين توسيع أدوارها الأمنية الأوروبية وتحصين مؤسستها العسكرية من اختراقات أيديولوجية تهدد الانضباط والجاهزية والسمعة الدولية، والأرقام الأخيرة ليست تفصيلا عابرا فقد تم رصد 280 واقعة تطرف خلال عام 2024، مقابل 205 في العام السابق، مع إنهاء خدمة 97 جنديا وفتح إجراءات ضد آخرين، وهذه القفزة، رغم ضآلة النسبة قياسا إلى الحجم الكلي للقوات، تشير إلى اتجاه متصاعد داخل مؤسسة تقوم على حماية قيم المواطنة والنظام الديمقراطي الحر.
حجم الظاهرة في سياقها الوطني
التقرير الاتحادي لحماية الدستور يشير إلى اتساع المشهد اليميني المتطرف إلى نحو 50 ألفا و250 شخصا في 2024، مع قفزة في الجرائم ذات الدوافع السياسية اليمينية بنسبة تقارب 47 في المئة، وهذا المناخ الخارجي يوفر بيئة حاضنة للتوجهات المتطرفة ويزيد عبء التحصين الداخلي على المؤسسات النظامية، ومنها القوات المسلحة.
لا تتشابه الوقائع الـ280 من حيث الخطورة، لكنها تتراوح بين تحيات وشعارات نازية وتصرفات عنصرية ومظاهر عداء لليهود والمهاجرين، وصولا إلى تعاطف منظّم مع رموز وأفكار يمينية متطرفة، وتتعامل السلطات مع هذه الحالات على سلم إجراءات يبدأ بالتحقيق والمساءلة الانضباطية وقد ينتهي بالعزل والطرد الجنائي أو الإداري، كما حدث مع عشرات الجنود خلال العام الماضي، وتؤكد وزارة الدفاع والقيادة العسكرية أن سياسة عدم التسامح مع الانتهاكات مطبقة، فيما تدعو المعارضة إلى شفافية أكبر وتسريع الإصلاحات الوقائية.
تداعيات أمنية على ألمانيا وأوروبا
يتجاوز الخطر السمعة وصورة الجيش، في زمن الحرب الروسية على أوكرانيا، تتبدى حساسية أي اختراق أيديولوجي داخل جيوش حلف شمال الأطلسي، فألمانيا تقود لواءً أمامياً وتعزز وجودها في ليتوانيا بانتشار بريغادة كاملة على تخوم روسيا وبيلاروس، وأي نقاط ضعف داخلية قد تعني مخاطر تجسس، وتسريب معلومات، أو تخريبا لوجستيا يؤثر على تماسك الردع والنقل العسكري والدعم اللوجستي الأوروبي إلى الشرق. كما يزيد التطرف اليميني من مخاطر العنف الداخلي وحوادث السلاح، ويؤثر سلبا على الانسجام العملياتي في بعثات متعددة الجنسيات.
تقارير اليوروبول عن التهديد الإرهابي في الاتحاد الأوروبي تسجل بانتظام حضور عنف اليمين المتطرف بوصفه تهديدا متناميا، ولو دون مستوى الشبكات الجهادية من حيث القدرة العملياتية، هذا الاتجاه يضغط على الحكومات لتشديد الفحص الأمني للعاملين في القطاعات الحساسة، بما فيها الجيوش، وتطوير برامج وقاية ومكافحة تطرف مصممة لمسرح الخدمة العسكرية.
الإطار القانوني والمهني داخل الجيش
يستند التعامل الرسمي مع الظاهرة إلى منظومة قانونية ومهنية راسخة، حيث يفرض قانون شؤون الجنود على العسكريين في ألمانيا الاعتراف بالنظام الديمقراطي الحر والدفاع عنه بسلوك لا لبس فيه، فيما تبلور فلسفة “القيادة الداخلية” مفهوم “المواطن في الزي العسكري”، الذي يحد سلطات الأمر والطاعة ويغرس أخلاقيات احترام الكرامة وحقوق الإنسان داخل المؤسسة، ويشكل هذا الإطار مرجعية للمساءلة والانضباط والعزل حين تُنتهك قيم الدستور.
ليست هذه أول مواجهة مع التطرف فقبل سنوات تفجرت فضائح داخل قوات النخبة الخاصة كلفت المؤسسة سمعتها وأدت إلى حل إحدى سراياها وإطلاق مراجعات شاملة للتدريب والانتقاء ومراقبة الذخيرة والسلاح، تلك السوابق بيّنت أن المعالجة الوقائية والشفافية العلنية، مع إجراءات حاسمة، قادرة على تطويق الخطر إذا ما توافرت الإرادة السياسية والموارد الرقابية.
ماذا تقول المنظمات الحقوقية والرقابية؟
تتعامل البنية الرقابية الألمانية، وعلى رأسها مفوضة البوندستاغ لشؤون القوات المسلحة، مع التطرف كأحد “مؤشرات الإنذار المبكر” في تقاريرها السنوية، داعية إلى تسريع التحقيقات وتحسين قنوات الإبلاغ الداخلي وحماية المبلّغين، وتحديث التدريب القيمي لمواجهة الدعاية المتطرفة، وفي المقابل، تحذر منظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش من ترك أي هامش لخطاب الكراهية والعنصرية داخل مؤسسات الدولة، وتدعو إلى معالجة هيكلية تجمع الوقاية وإعادة التأهيل والمساءلة، مع شفافية أكبر تجاه الرأي العام.
الأسباب المغذية داخل المؤسسة وخارجها
تتشابك دوافع الظاهرة بين عوامل مجتمعية وسياسية وإعلامية، منها الارتفاع العام في الاستقطاب السياسي، وانتشار المحتوى المتطرف عبر المنصات الرقمية، وموجات التضليل، وتنامي تيارات قومية متشددة، كلها عوامل تتسرب إلى القوات المسلحة بوصفها جزءا من المجتمع، وداخل المؤسسة نفسها، يشير خبراء إلى أدوار الضغوط المهنية المرتبطة بعمليات الانتشار والقتال، وإحساس بعض الأفراد بالتهميش.
ما الذي يعنيه ذلك لأمن أوروبا؟
أمن أوروبا يعتمد على جاهزية الجيوش الوطنية وثقة الجمهور بها، وإذا كانت ألمانيا عمودا اقتصاديا وسياسيا في الاتحاد الأوروبي، فإن قوتها العسكرية آخذة في التوسع لملء فجوات الردع والدفاع، ووجود خلايا أو عناصر متطرفة داخل الجيش لا يهدد فقط تماسك العمليات المشتركة، بل يمنح الدعاية المعادية ذخيرة للطعن بشرعية المهام، ويضعف القدرة على بناء شراكات أمنية مع مجتمعات محلية في مسارح الانتشار الخارجي، كما يخلق تحديات قانونية عند التعاون الاستخباري وتبادل المعلومات الحساسة، إذ تشدد بعض الدول على معايير أمنية أعلى إذا اشتبهت بوجود اختراقات أيديولوجية لدى الشركاء، وفي حال تُركت الظاهرة دون معالجة صارمة، قد تتسع إلى تواطؤ مع شبكات متطرفة عابرة للحدود أو مجموعات يمينية عنيفة داخل القارة، بما يقوض جهود الاتحاد في مكافحة الإرهاب اليميني ويزيد تكاليف الأمن الداخلي.
خريطة استجابة مطلوبة
ثمة مسارات عملية لتعزيز المناعة المؤسسية، أولها تدعيم صلاحيات الاستخبارات العسكرية في الرصد المبكر مع ضمان الضوابط القانونية والرقابة البرلمانية، ثانيها مواءمة التدريب على “القيادة الداخلية” مع بيئة المعلومات المفتوحة اليوم، وتضمين وحدات إلزامية حول مواجهة الدعاية والكراهية الرقمية، وثالثها توحيد معايير الانتقاء والترقية بما يحد من تغلغل المتعاطفين مع تيارات مناهضة للدستور، مع توسيع برامج التوعية والتأهيل للقيادات الوسطى، ورابعا، تعزيز قنوات الإبلاغ السري وحماية المبلّغين، وربط المخالفات القيمية بعقوبات سريعة وشفافة، إضافة إلى شراكات ذكية مع المجتمع المدني والأكاديمي لتطوير أدوات الوقاية وإعادة الإدماج عند الإمكان.