انهيارات تجارية وضغوط اجتماعية.. كيف تؤرّق إفلاسات الشركات ألمانيا في 2025؟
انهيارات تجارية وضغوط اجتماعية.. كيف تؤرّق إفلاسات الشركات ألمانيا في 2025؟
أعلن مكتب الإحصاء الألماني الخميس أن عدد حالات إفلاس الشركات المسجلة في النصف الأول من عام 2025 ارتفع بنسبة 12.2 بالمئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، جاءت هذه البيانات لتُبرز التحديات الكبيرة التي تواجهها الشركات، خاصة الصغيرة والمتوسطة، وسط تراجع في النمو وضغوط على السيولة النقدية، وقد سجّلت المحاكم المحلية 12,009 حالة إفلاس خلال الأشهر الستة الأولى من العام.
رغم ارتفاع عدد الحالات، فإن حجم مطالبات الدائنين انخفض إلى نحو 28.2 مليار يورو، مقارنة بـ32.4 مليار في الفترة نفسها من عام 2024، ما يشير إلى أن الشركات التي تنهار الآن غالباً ما تكون أصغر من حيث الأصول أو الإيرادات مقارنة بالشركات المنهارة في 2024، وفق وكالة "رويترز".
أسباب ارتفاع الإفلاسات
اقتصاد ألمانيا يعاني من تقلّص في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الثاني من السنة، إضافة إلى تأثر المصدرين بالرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، وشكل الطلب الضعيف على الصادرات، إلى جانب ارتفاع تكلفة المواد الأولية والطاقة، ضغطاً مزدوجاً على الشركات.
بعد فترة من أسعار فائدة منخفضة، بدأ رفعها في السنوات الأخيرة، مما أثقل كاهل الشركات التي تحتاج إلى تمويل أو إعادة هيكلة ديونها، والسيولة تقلصت، والاقتراض أصبح أكثر تكلفة، وهذا جعل بعض الشركات عاجزة عن البقاء.
الاقتصاد الألماني يواجه ما يمكن وصفه بأزمة تحول؛ صناعات تتطلب تحديثاً، ارتفاع تكاليف الطاقة، المنافسة العالمية، التزام بيئي يكلف الكثير في الاستعدادات والتكنولوجيا، وبعض القطاعات، مثل صناعة السيارات والتموين والتجزئة، تأثرت بشدة.
الجائحة تركت تبعات على سلاسل التوريد، على طلب المستهلك، وعلى الاستثمارات. فترات تعليق قوانين الإفلاس أو تأجيل بعض الالتزامات خلال الجائحة لم تُكمل تعافيها بعد ذلك، مع السياسات المالية التقليدية الغاشمة أحياناً أمام هذه الأزمات، ساهم في تجميد موازنات للشركات الهشة.
الإحصاءات الحديثة المؤثرة
عدد حالات إفلاس الشركات (الإفلاس التجاري) في ألمانيا تجاوز 12 ألف حالة في النصف الأول من 2025، بزيادة 12.2% مقارنة بنفس الفترة من 2024.
هناك توقع من غرفة التجارة والصناعة الألمانية بأن الحالات الإجمالية للإفلاس قد تتعدّى 22 ألف شركة هذا العام، مقارنة بـ21,812 حالة في 2024، ما سيجعلها أعلى مستوى منذ عام 2015، كما أن عدد العاملين الذين تأثّروا بإفلاس الشركات خلال النصف الأول ارتفع، مع تقديرات تشير إلى أن نحو 141 ألف موظف كانوا يعملون في الشركات المنهارة، ما ينعكس على سوق العمل مباشرةً.
مقارنات بين القطاعات تُظهر أن الصناعات التحويلية والتجزئة والخدمات تحملت نصيباً من الصدمات الأكبر، بينما بعض القطاعات الأخرى كانت أقل تأثراً في بداية الأزمة.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية
مع ارتفاع عدد الإفلاسات، تخسر آلاف الوظائف، والعمال في الشركات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر عرضة، لأن تلك الشركات تمثل حصة كبيرة من التوظيف المحلي، وفقدان الوظيفة يعني فقدان للدخل، وتأثر مباشر لحياة الأسر وقدرتها على تلبية الاحتياجات الأساسية.
إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة يعني أن جزءاً من روح المبادرة يُفقد؛ فالأشخاص الذين كانوا يفكرون في بدء مشروع أو توسع يجدون أن المخاطر الآن أعلى، القروض أغلى، المنافسة الدولية والبيروقراطية المحلية تعيق أكثر، وهذا يؤدي إلى انخفاض الابتكار وفرص النمو الاقتصادي المحلي.
المطالَبات من الدائنين بلغت أرقاماً كبيرة رغم الانخفاض النسبي، ما يعني خسائر في الاستثمار وتمويل الشركات أو الأفراد، البنوك تواجه بدورها مخاطر ديون معطلة، ما قد يؤدي إلى تشديد شروط الإقراض مستقبلاً، وزيادة تكلفة الاقتراض للشركات الجديدة أو المنهارة ماليًا.
ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الحماية الاقتصادية يزيدان من التوتر الاجتماعي، الأسر المتضررة قد تواجه صعوبات في السكن، الصحة، التعليم، كذلك الشركات التي تغلق قد ترفع من الشعور بعدم الأمان الاقتصادي، وقد ينجم عن ذلك ضغوط سياسية على الحكومة للمساءلة أو لإيجاد حلول عاجلة.
منظمات الأعمال والاتحادات التجارية
غرفة التجارة والصناعة الألمانية (DIHK) أعربت عن القلق من انخفاض القيمة المضافة وفقدان الوظائف وإمكانات ريادة الأعمال. التوقعات تفيد بارتفاع الإفلاسات إلى أكثر من 22 ألف شركة خلال عام 2025.
كما طالبت جمعيات أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة باتخاذ إجراءات دعم مالي فوري، خفض الأعباء التنظيمية، تخفيض الضرائب أو تأجيلها، وتيسير الوصول إلى تمويل وقروض بشروط ميسرة. بعضهم يرى أن السياسات الحكومية الحالية لا تلبي سرعة الأزمات.
الحكومة الألمانية تواجه ضغطاً مزدوجاً: من جهة الحاجة لدعم الشركات، ومن جهة أخرى تحدي الحفاظ على استقرار المالية العامة والتزامات الميزانية، والوزراء يعترفون أن الانتعاش الاقتصادي بطيء، وأن السياسات الاستثمارية الكبرى تحتاج وقتاً لتترجم تأثيراتها.
البوندسبانك قدّم تحذيرات منذ وقت حول ارتفاع مخاطر الإفلاس بسبب ضعف أرباح الشركات، تضخم التكاليف، تكاليف الطاقة المرتفعة، وتأثير السياسات العالمية مثل الرسوم الجمركية أو اضطرابات سلاسل التوريد.
تأثير على العمال
الاتحادات العمالية تحذر من أن ضعف السيولة وانخفاض الأجور أو توقفها قد يؤدي إلى مزيد من الإضرابات، مطالبات بتحسين شروط العمل، حماية اجتماعية أفضل، ودعم للعمال الذين يفقدون وظائفهم، وبعض الحالات الخاصة بإفلاس شركات كبيرة لاقت تغطية إعلامية كبيرة وأثّرت في الرأي العام، ما يدفع الضغط السياسي نحو حلول عاجلة.
المنظمات المعنية بحقوق الإنسان الاجتماعية تنبه إلى أن انهيار الشركات يعني ليس فقط خسارة الأجور، بل فقدان الأمان الاقتصادي للأسر، وتدهور الحالة النفسية الاجتماعية، وتأخّر فرص الشباب في الحصول على تدريب أو وظائف.
اقتصاد ألمانيا شهد فترات من الأزمات الاقتصادية بعد الأزمات العالمية مثل أزمة 2008 وأزمات الديون الأوروبية، وقد اعتمد تاريخياً على الصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية، وعلى الصادرات. لكن مع تغير المناخ الاقتصادي العالمي، ارتفاع تكاليف الطاقة، الحاجة للانتقال للطاقة النظيفة، والتحولات في سلاسل الإنتاج العالمية، أصبح بنية الاقتصاد الألماني تحت الضغط.
أيضاً، خلال جائحة كورونا، تم تعليق بعض قوانين الإفلاس مؤقتاً، وتدخلت الدولة بدعم للشركات، مما أخّر ظهور بعض حالات الإفلاس حتى بعد زوال الإجراءات الطارئة. الآن، مع زوال الكثير من الدعم، تظهر الفاتورة.
التوقعات المستقبلية
بحسب الخبراء، من المتوقع أن تستمر أعداد حالات الإفلاس في الارتفاع خلال الخريف والشتاء القادمين، خصوصاً مع استمرار الأزمات العالمية مثل ارتفاع أسعار الطاقة، التضخم، ضعف الطلب على الصادرات الصينية أو الأمريكية، وضغوط سياسية داخلية.
البعض يتوقع أن يصل عدد الإفلاسات هذا العام إلى نحو 24,400 حالة أو أكثر، وأن يتجاوز هذا الرقم في العام المقبل إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات قوية داعمة.
إفلاس الشركات في ألمانيا ليس مجرد رقم إحصائي، بل هو انعكاس لأزمة هيكلية عميقة تتداخل فيها الأزمات الاقتصادية العالمية، السياسات المالية، أسعار الطاقة، وتغيرات الصناعة، وارتفاع حالات الإفلاس يعني خسارة للأفراد، للمجتمعات، وللمستقبل الاقتصادي، والنمو المرتقب لا يظهر إلا تدريجياً، والإجراءات الحكومية اليوم قد تحدد ما إذا كانت الشركات تستطيع الصمود أم ستذهب ضحايا للتحولات التي لا ترحم.