من لاجئ إلى عامل خفيّ.. تحقيق يكشف استغلال المهاجرين عبر شركات وهمية في بريطانيا
من لاجئ إلى عامل خفيّ.. تحقيق يكشف استغلال المهاجرين عبر شركات وهمية في بريطانيا
كشف تحقيق أجرته شبكة BBC عن وجود شبكة من الشركات والمتاجر الصغيرة تُدار فعلياً عبر مجلسيين وهميين يعودون إلى أصول كردية، تغطي شمالاً من دندي وجنوباً إلى ديفون، وتسمح بتشغيل مهاجرين بدون حق قانوني، وتنشط هذه الشبكة من خلال استغلال ثغرات في نظام تسجيل الشركات داخل بريطانيا واستخدام مدراء واجهات دون إدارة فعليّة، لتجنب الرقابة الضريبية والعمالية.
في إطار هذا التحقيق الذي استمر أربعة أشهر، تَظاهَر صحفيان كرديان أنهما طالبا لجوء، ووجدا أن بإمكان المشتري تشغيل متجر دون أي أوراق رسمية، بعد دفع مبلغ نقدي مقداره نحو 18 ألف جنيه إسترليني لشراء متجر في كرو، مع سجل مدير وهمي يتقاضى نحو 250 جنيهًا شهريًا لتسجيله باسمه.
من بين الأسماء التي وردت، جاء هادي أحمد علي، من برمنغهام، بوصفه مديراً وهمياً لأكثر من خمسين شركة، رغم أنه ممنوع من تولي منصب إداري لمدة خمس سنوات منذ إدانته في عام 2024 ببيع سجائر غير قانونية لقاصرين، وورد أيضاً اسم إسماعيل أحمدي فرزندة مدرجاً بوصفه مديراً لما يقرب من 25 متجراً، وقد غُرم 4500 جنيه إسترليني بعد ضبط متجر باسمه يبيع سجائر إلكترونية ممنوعة لقاصر بعمر 14 عاماً.
شركات وهمية واستغلال المهاجرين
يكشف التحقيق أن هذه الشركات تُحلّ غالباً بعد عام واحد ويُعاد تسجيلها بأسماء أو تهجئات مختلفة لتجنب المراقبة والتدقيق من جهات مثل سجل الشركات (Companies House) أو هيئة المعايير التجارية، ويصف خبير الجرائم المالية، غراهام بارو، هذه الآلية بأنها "مؤشّر واضح لنشاط منظمة إجرامية".
كما أظهر التحقيق أن بعض طالبي اللجوء يعملون أربع عشرة ساعة يومياً مقابل أربعة جنيهات فقط في الساعة، وفي بعض الحالات، عُرِض على بنّائين أكراد بناء مخابئ سرية لتخزين سجائر أو سوائل إلكترونية مهربة مقابل نحو ستة آلاف جنيه إسترليني، بهدف خداع عناصر الكلاب البوليسية.
وتُبيّن هذه الأرقام والحقائق كيف أن تشغيل المهاجرين غير القانونيين يدخل ضمن منظومة تجارية واسعة وربحية، وليس مجرد استثناء بسيط.
التداعيات الإنسانية والاجتماعية
من الناحية الإنسانية، تكشف هذه القضية المثارة حديثاً في بريطانيا عن وجه مظلم من العمل غير القانوني يتجسد في مهاجرين بلا وضع قانوني، بلا حقوق عمل أو تأمين صحي، معرضين للاستغلال والتلاعب. يعملون في متاجر وصالونات ومغاسل سيارات، غير مطمئنين إلى ركن الأمان الوظيفي، ما يؤثر بشكل مباشر في حياتهم النفسية والجسدية.
إضافة إلى ذلك، فإن تسعينيات وألفينات القرن الحادي والعشرين شهدت انتشاراً كبيراً لأشكال العمل الموازية، لكن هذه التحقيقات تشير إلى أن البنية التجارية التقليدية -المتجر المحلي، الصالون، المغسلة- أصبحت واجهة لتشغيل مهاجرين بلا حق قانوني، ما يُشكّل ضغطاً على حقوق العمال القانونيين ويُحدث تشويهاً في سوق العمل.
كما أن وجود هذا النوع من الأنشطة يقوض ثقة المجتمع المحلي بالنظام الإداري والتنظيمي، ويفتح باب استغلال المهاجرين ليكون مادة خاماً للرأسمالية المظللة.
ردود الفعل
ردّت وزيرة الداخلية البريطانية، شابانا محمود، بالإعلان عن فتح تحقيق حكومي شامل، مؤكدة أن "العمل غير القانوني والأنشطة الإجرامية المرتبطة به تشجع دخول البلاد بطرق غير مشروعة، ولن نتسامح مع ذلك"، وأضافت أن السلطات زادت مداهمات أماكن العمل بنسبة 51% هذا العام، ورفعت الغرامات على أصحاب الأعمال المخالفين إلى 60000 جنيه إسترليني لكل عامل غير قانوني، وصادرت ملايين الجنيهات من البضائع غير المرخّصة، وسجّلت إزالة أكثر من 35000 شخص بلا حق إقامة.
من جهة أخرى، صرّح متحدث باسم سجل الشركات في بريطانيا بأنه يمتلك الآن صلاحيات أوسع لمشاركة المعلومات ودعم التحقيقات الأمنية”، وأكد إحالة أي شبهات جنائية للجهات المختصّة.
من جانب المنظمات الحقوقية، أكد تقرير نشرته مراسلون بلا حدود أن تشغيل المهاجرين بصورة غير قانونية في واجهات تجارية يُمثّل جزءاً من الشبكات الإجرامية الواسعة التي تستغل ضعف الحماية القانونية للمهاجرين، وتجري منظمات محلية مقارنة بين هذا النوع من الاستغلال وبين ظواهر الاتجار بالبشر، حيث تصبح العمالة رخيصة وقليلة الحماية، وتُخلق بيئة تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان والعمل الكريم.
الإطار القانوني والدولي
من الناحية القانونية، تُعد هذه الأنشطة انتهاكاً لعدة التزامات دولية وبريطانية، والحق في العمل الكريم والبيئة الآمنة محمي في قانون العمل البريطاني واتفاقيات العمل الدولية، كما أن تشغيل مهاجرين بلا تصريح يُعدّ خرقاً لقوانين الهجرة والعمل، ويُنبّه قانون الاتجار بالبشر إلى مخاطر تحويل العمل غير القانوني إلى آلية استغلال، بجانب أن إدارة شركات وهمية تستخدم أسماءً واجهة تمثّل خرقاً لقانون الشركات والشفافية، ويترتب عليه مساءلة جنائية.
تأتي هذه الظاهرة في سياق تغيّر بيئة العمل والإدارة في بريطانيا، حيث ازداد عدد الشركات الصغيرة والمتاجر المحلية؛ وهو ما شكّل جزءاً من الاقتصاد المحلي، لكن فتح الباب بسهولة لتسجيل تلك النوعية من الشركات خلق فجوة تنظيمية استغلتها الشبكات الإجرامية.
منذ منتصف العقد الماضي، تكشّفت تقارير متكرّرة عن استغلال العمال المهاجرين في قطاعات غسل الصحون والضيافة والبناء؛ وما كشفه التحقيق الجديد هو امتداد هذا الأمر إلى المتاجر والصالونات، ما يُبرز أن المشكلة لم تعد محصورة في سوق العمل “شبه المؤقت” بل دخلت ضمن الشارع والتجزئة.
الهجرة والعمل غير القانوني
يكشف التحقيق كيف أن الشبكة لا تكتفي بتشغيل المهاجرين، بل تستفيد من التهرّب الضريبي والبيع غير القانوني للسلع (سجائر إلكترونية، منتجات مبيّتة للأطفال) في المتاجر التي تديرها داخل بريطانيا، وهو ما يربط بين العمل غير القانوني والجرائم الاقتصادية الكبرى، ويسلط الضوء على أن المهاجرين المستخدمين ليسوا فقط ضحايا استغلال العمل، بل أن هذا الاستغلال يتداخل مع منظومة جنى الأرباح التي تخضع لدورات مالية غير شفافة.
يُعدّ هذا التداخل بيئة خصبة لجرائم مثل التهريب، تهرّب الضرائب، استخدام الواجهات التجارية لغسيل الأموال، وهو ما يضع السلطات أمام تحدٍّ مزدوج: حماية حقوق العمال المهاجرين، ومكافحة الجريمة الاقتصادية المنظمة.
ثمة ضرورة لتعزيز الرقابة على تسجيل الشركات الصغيرة، خاصة تلك التي تُستخدم بوصفها واجهات، من خلال التحقق من المدراء القانونيين وتفعيل العقوبات على المديرين الوهميين، كما يجب إيلاء حماية قانونية أوسع للمهاجرين العاملين، وضمان حقهم في بيئة عمل آمنة ومواجهة استغلالهم ضمن شبكة تلك الشركات، بجانب تكثيف التنسيق بين جهات إنفاذ القانون والهجرة والعمل والضرائب، لتفكيك الشبكات الموازية التي تستفيد من تشابك العمالة غير القانونية والتهرّب الاقتصادي.










