من البيانات إلى الأفعال.. لماذا بات مستقبل العدالة والمساواة مرهوناً بالتزامات أستراليا تجاه شعوبها الأصلية؟
من البيانات إلى الأفعال.. لماذا بات مستقبل العدالة والمساواة مرهوناً بالتزامات أستراليا تجاه شعوبها الأصلية؟
في مشهد يختزل تراكمات عقود من التهميش، أصدر قادة السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس في أستراليا بيانًا مشتركًا طالبوا فيه الحكومة بالوفاء الفوري بالتزاماتها الراسخة تجاه حقوقهم.
البيان الذي صدر في الذكرى الثامنة عشرة لاعتماد الأمم المتحدة لإعلان حقوق الشعوب الأصلية، ومرور ستة عشر عامًا على تصديق أستراليا عليه، جاء بمثابة جرس إنذار سياسي وقانوني، حيث دعا إلى خطوات عاجلة قائمة على الحقوق لتجسير الفجوات التاريخية والاجتماعية التي لا تزال قائمة.
الأسباب الجذرية للمطالب
رغم تبني أستراليا رسميًا إعلان الأمم المتحدة عام 2009، لم يترجم ذلك إلى إصلاحات جوهرية في القوانين أو السياسات حيث لا تزال الفجوة الصحية والتعليمية والاقتصادية بين السكان الأصليين وبقية المجتمع الأسترالي واسعة، وتشير بيانات حكومية إلى أن متوسط العمر المتوقع للسكان الأصليين أقل بنحو ثماني سنوات من نظرائهم غير الأصليين، كما ترتفع معدلات البطالة بينهم إلى الضعف تقريبًا مقارنة بالمعدل الوطني، إضافةً إلى ذلك، يواجه أطفال السكان الأصليين معدلات مرتفعة من الفصل القسري عن أسرهم، فيما تبلغ معدلات سجن الشباب منهم أضعاف المعدلات الوطنية، وهذه الفوارق البنيوية ليست مجرد إحصاءات، بل تعكس إخفاقات تاريخية في العدالة والإنصاف.
المطالب الجوهرية
دعا البيان الحكومة إلى الرد رسميًا بحلول 22 نوفمبر 2025 على تقرير اللجنة البرلمانية الدائمة لشؤون السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس، الذي أوصى بخريطة طريق واضحة تضمنت وضع خطة عمل وطنية لتنفيذ إعلان الأمم المتحدة بالشراكة مع المجتمعات، وتعديل التشريعات لدمج الإعلان في القانون الأسترالي، وإنشاء عملية مستقلة لكشف الحقيقة وإبرام المعاهدات مع الشعوب الأصلية، وهذه المطالب لا تتعلق فقط بالسياسات، بل تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والشعوب الأصلية على أساس الاحترام المتبادل والعدالة التاريخية.
العدالة الجنائية كأولوية ملحة
أحد أبرز جوانب البيان كان التركيز على إخفاقات نظام العدالة الجنائية، فمنذ صدور تقرير اللجنة الملكية بشأن وفيات السكان الأصليين أثناء الاحتجاز عام 1991، توفي المئات دون أن تُطبق معظم التوصيات، ويطالب القادة اليوم برفع سن المسؤولية الجنائية من 10 سنوات، ودمج اتفاقية حقوق الطفل في التشريع الوطني، وإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في الوفيات أثناء الاحتجاز، وهذه الدعوات تأتي في ظل إحصاءات صادمة: فالسكان الأصليون يشكلون 30 في المئة من نزلاء السجون، رغم أنهم لا يتجاوزون 3.8 في المئة من إجمالي السكان.
ردود الفعل الحقوقية المحلية والدولية
المنظمات الحقوقية المحلية مثل "مجلس الخدمات الصحية للسكان الأصليين" رحبت بالبيان واعتبرته فرصة للضغط على الحكومة، أما منظمة العفو الدولية فقد وصفت استمرار التفاوت بأنه "انتهاك متواصل لحقوق الإنسان"، ودعت إلى ربط جميع خطط التنمية الوطنية بإطار حقوقي ملزم، وعلى المستوى الأممي، أعادت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التذكير بالتزامات الدول الأطراف في الإعلان، مؤكدة أن التأخر في التنفيذ يرقى إلى إخلال بالمعايير الدولية.
الإطار القانوني الدولي
إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية ليس وثيقة رمزية فقط، بل يُعد أداة معيارية دولية تلزم الدول بضمان الحقوق في الأرض والموارد والثقافة والهوية والتمثيل السياسي، وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة مرارًا أن تأخير دمج هذه الالتزامات في التشريعات الوطنية يقوض أسس المساواة، وبالنسبة لأستراليا، يعني ذلك أن إخفاقها في إدراج الإعلان في القانون المحلي يضعف مصداقيتها كدولة ديمقراطية ملتزمة بالقانون الدولي.
يعود تاريخ التهميش إلى الحقبة الاستعمارية، حينما اعتُبرت أستراليا "أرضًا بلا مالك" عام 1788، ما مهد الطريق لسلب الأراضي وطمس الثقافات الأصلية، ورغم الاعتراف القانوني المحدود بحقوق الأراضي بعد قرار "مابو" عام 1992، بقيت سياسات الإدماج والتعويض بطيئة وغير متكافئة، فالتجارب القسرية مثل "الجيل المسروق" لا تزال تلقي بظلالها على الهوية الجمعية للسكان الأصليين، وتُعد عاملًا رئيسيًا في عدم الثقة تجاه المؤسسات الرسمية.
التداعيات المستقبلية
إذا استمرت الحكومة الأسترالية في تجاهل هذه الدعوات، فقد تواجه أزمة ثقة متفاقمة بين المجتمعات الأصلية والدولة، إضافة إلى تداعيات سياسية ودولية على صورتها الحقوقية، في المقابل، الاستجابة الجادة يمكن أن تفتح الباب أمام مصالحة تاريخية حقيقية، وتوفر قاعدة اجتماعية أكثر عدلاً واستقرارًا، وتنفيذ التوصيات المقترحة من شأنه أن يضع أستراليا في موقع ريادي عالميًا، ليس فقط في احترام حقوق الشعوب الأصلية، بل في تقديم نموذج عملي لاستدامة العدالة الاجتماعية.
البيان الصادر عن قادة السكان الأصليين ليس مجرد مطالبة حقوقية، بل هو دعوة صريحة لتحويل الالتزامات إلى أفعال، ويتعلق الأمر بالكرامة الإنسانية والعدالة التاريخية، وليس فقط بالسياسات والبرامج، وعلى الحكومة الأسترالية، إذا أرادت الحفاظ على مصداقيتها المحلية والدولية، أن تتجاوز لغة التعهدات نحو تنفيذ عملي ملموس يضع حقوق السكان الأصليين في قلب مشروعها الوطني.











