من غزارة الرحلات إلى تغيّر المسارات.. ماذا يخفي تراجع أرقام العبور عن واقع المهاجرين؟

من غزارة الرحلات إلى تغيّر المسارات.. ماذا يخفي تراجع أرقام العبور عن واقع المهاجرين؟
الهجرة غير الشرعية

سجلت عمليات العبور غير النظامي إلى دول الاتحاد الأوروبي تراجعاً بنسبة 21 في المئة خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2025 مقارنةً بالفترة نفسها من 2024، إذ وصلت الاكتشافات إلى 112,375 شخصاً وفق بيانات أولية صادرة الجمعة عن وكالة حرس الحدود والسواحل الأوروبية (فرونتكس).

ورغم هذا الانخفاض في عدد العبور، يبقى ثمن الرحلات محفوفاً بالمخاطر؛ فالمنظمة الدولية للهجرة تسجل حتى الآن أكثر من 1,131 وفاة على طريق عبور البحر المتوسط خلال العام الحالي، ما يؤكد أن التراجع في الأرقام لا يقابله تراجع مماثل في الخسائر البشرية.

وتظهر بيانات فرونتكس تباينات قوية بين المسارات من خلال تراجع حاد في عبور المهاجرين غير النظاميين غرب البلقان بنسبة 47%، والحدود البرية الشرقية بنسبة 44%، وغرب إفريقيا بنسبة 52% — وهو تراجع يعود جزئياً إلى تشديد رقابة بعض دول العبور وشراكات أمنية جديدة — في حين يظل طريق وسط البحر الأبيض المتوسط أكثر المسارات ازدحاماً بزيادة تقارب 22% ليبلغ نحو 42 ألف عبّار، مع بروز سواحل ليبيا نقطة انطلاق رئيسية يستخدم فيها مهربو البشر زوارق سريعة ومخاطر أعلى للحصول على أرباح كبرى.

وسجلت بعض المسارات المحلية ارتفاعات لافتة، مثل طريق غرب المتوسط والضغط على سواحل جزائرية بوصفها قاعدة انطلاق، ويعكس نشر فرونتكس لآلاف الضباط لدعم الدول الأعضاء تركيز الاتحاد على الاستجابة الأمنية لظاهرة العبور. 

أسباب الانخفاض

القراءة التحليلية لتراجع العبور وفق بيانات فرونتكس لا تقتصر على عامل واحد؛ بل تتداخل فيها عوامل سياسية وأمنية واقتصادية وقانونية منها تعزيز الرقابة والتعاون الثنائي، فقد أدت اتفاقيات الاتحاد مع دول عبور أو إقامة شراكات أمنية مع دول شمال وغرب إفريقيا (على سبيل المثال جهود مراقبة الحدود في موريتانيا) إلى إحكام السيطرة على بعض مسارات الهجرة غير الشرعية وتقليل الاكتشافات داخل التكتل. 

وتتضمن العوامل سياسات احتواء وتطوير أدوات العودة، ومقترحات وتشريعات أوروبية لإجراءات أسرع للترحيل، وملفات "البلدان الآمنة" والحديث عن آليات خارج الاتحاد للتعامل مع الوافدين، ما شكّل عاملاً رادعاً سياسياً. وتحذر منظمات حقوقية من أن هذا التوجه يُفضي إلى تفريغ الحماية ويدفع الناس إلى مخاطر كبرى. 

العامل الثالث يتمثل في ديناميات تهريب متغيرة، فشبكات التهريب تتكيّف حيث تقلص رحلات على مسارات وقد تظهر أخرى، أو تعتمد قوارب أصغر وأسرع اصطلاحاً للتهرب من المراقبة، ما يزيد نسب الغرق والوفيات، وقد وثقت تقارير طبية وإنسانية تكرار اعتراضات وعمليات مترافقة مع أعمال عنف واحتجاز في دول عبور. 

تداعيات إنسانية وقانونية

انخفاض الاكتشافات لا يعني انتهاء الحاجة للحماية؛ فالتداعيات تستحضر عدة أبعاد منها استمرار الانتهاكات والموت، إذ تثبت أرقام الوفيات المرتفعة على البحر المتوسط أن من يبقى يواجه مخاطر أشد، وأن سياسات الردع قد تكون مسؤولة عن تحويل الرحلات إلى مسارات أخطر.

وتتضمن وجود آثار على حقوق الوصول إلى اللجوء؛ فممارسات "الدفع إلى الخلف" والرفض خارجياً أو على الحدود قد تنتهك مبدأ عدم الإعادة القسرية والالتزامات بموجب القانون الدولي للاجئين وحقوق الإنسان، وتؤكد توجيهات ومبادئ الأمم المتحدة واجب الدول بإنقاذ الأشخاص المحتاجين للمساعدة في البحر وضرورة منح الوصول للطلب الآمن للحماية.

عندما تُنقل أو تُفوض وظائف الحدود إلى دول ثالثة، تنشأ أسئلة قانونية حول مسؤولية الدول الأعضاء في حال انتهاكات ترتكبها تلك الجهات أو وضع اللاجئين في حالات خطرة، وتحذر تقارير حقوقية من مخاطر "التفويض الخارجي" للسياسات دون ضمانات حقوقية كافية بحسب منظمة العفو الدولية.

ردود فعل حقوقية وأممية

المنظمات الحقوقية الدولية رأت أن تقلّص الأرقام يعكس إلى حدّ كبير سياسة احتواء وممارسات خارج الاتحاد قد تؤدي إلى انتهاكات؛ وأصدرت تقارير تنتقد الشراكات والتمويل الأوروبي لبعض دول شمال وغرب إفريقيا التي تُطبّق إجراءات قاسية، ومنها اعتقالات تعسفية، وظروف احتجاز غير ملائمة، خصوصاً في حالات توثيق الممارسات في موريتانيا وتونس وليبيا، وعلى مستوى أممي، تؤكد مفوضية اللاجئين والمنظمات البحرية ضرورة احترام واجب الإنقاذ والالتزامات بحماية طالبي اللجوء وتمكين وصول المساعدات والإنزال الآمن. 

الموجات الكبيرة من العبور إلى أوروبا ليست جديدة؛ الأرقام القياسية بين 2014 و2016 أوضحت هشاشة المسارات وغياب حلول سياسية مستدامة، بعدها شهدت سياسات احتواء وعمليات إعادة توطين وتعاون أمني تأثيراً في تدفق الأعداد، لكن التاريخ يؤكد أن الحروب والاضطرابات والفقر والقيود القانونية تواصل دفع الناس إلى المجازفة بحياتهم، وتظهر البيانات التاريخية أن انخفاضات مؤقتة تتبعه تحولات وظهور مسارات بديلة، ما يجعل الحلول طويلة الأمد مرتبطة بفرص الحماية القانونية والتنمية والبدائل الشرعية للهجرة. 

الانخفاض الملاحظ في أرقام العبور إلى الاتحاد الأوروبي يمكن قراءته نجاحاً مؤقتاً في السيطرة على المسارات، لكنه ليس مقياساً كافياً لنجاح سياسات الهجرة ما لم يقترن بتراجع في الوفيات واحترام صارم لالتزامات الإنقاذ واللجوء وحقوق الإنسان، وتطلب الواقعية سياسات مزدوجة، منها خفض الحوافز للاعتماد على شبكات التهريب من جهة، وتوسيع قنوات هجرة قانونية وبرامج حماية وإغاثة من جهة أخرى، مع رقابة شفافة على أي شراكات خارجية تضمن عدم تعرض الأشخاص للانتهاكات، في غياب هذا التوازن، يبقى السؤال قائماً: هل سينعكس تراجع الأرقام على حياة البشر أم أنه مجرد تحول جغرافي مؤلم يزيد من احتمالات الموت والانتهاك؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية