يحلمون بعبور المتوسط.. مهاجرون عالقون في ليبيا بين الفقر والحرب ومخاطر البحر
يحلمون بعبور المتوسط.. مهاجرون عالقون في ليبيا بين الفقر والحرب ومخاطر البحر
تظل أزمة الهجرة غير القانونية من وإلى ليبيا واحدة من أكثر الملفات تعقيداً في شمال إفريقيا، حيث تتقاطع فيها الأبعاد الاقتصادية والسياسية والأمنية والإنسانية. فالدولة التي مزقتها الصراعات منذ 2011 تحولت إلى محطة رئيسية للمهاجرين الأفارقة والعرب الساعين للوصول إلى السواحل الأوروبية، في وقت تبدو فيه الحلول الجذرية بعيدة المنال رغم الجهود الدولية المتكررة.
ووفقاً لأحدث بيانات مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، بلغ عدد المهاجرين الموجودين في ليبيا حتى يوليو 2025 نحو 894 ألفاً و890 شخصاً من 45 جنسية مختلفة موزعين على أكثر من مائة بلدية في أنحاء البلاد، بزيادة 18% عن العام الماضي. هذه الأرقام، التي تستند إلى مقابلات ميدانية وتحليل شامل لحركة المهاجرين، تكشف عن اتساع الظاهرة رغم القيود والعقبات الأمنية.
هروب من الحروب
الدوافع الاقتصادية لا تزال المحرك الأساسي وراء الهجرة إلى ليبيا، إذ أفاد 77% من المهاجرين الذين جرى استطلاع آرائهم بأن الظروف المعيشية الصعبة وانعدام فرص العمل في بلدانهم الأصلية دفعتهم للمغامرة بعبور الصحراء نحو الأراضي الليبية.
في المقابل، أشار 16% منهم إلى أن الحروب الأهلية والاضطهاد في بلدانهم كانت السبب الرئيس وراء قرارهم، خصوصاً في دول مثل السودان وتشاد ونيجيريا.
وعلى الرغم من أن 76% من المهاجرين يعملون حالياً داخل ليبيا، فإن الغالبية يعانون من هشاشة أوضاعهم، حيث يعتمد 80% منهم على اتفاقيات عمل شفهية بلا حماية قانونية، بينما يمتلك فقط 2% عقوداً مكتوبة. وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن هؤلاء العمال يشكلون ركيزة أساسية في الاقتصاد الليبي، خصوصاً في قطاعات البناء والزراعة والخدمات المنزلية، لكنهم يعملون في ظروف غير مستقرة وغير إنسانية في أحيان كثيرة.
توزيع المهاجرين بالمدن
تتركز النسبة الأكبر من المهاجرين في المنطقة الغربية بنسبة 53%، تليها الشرقية بنسبة 35%، ثم الجنوبية بنسبة 12%.
وتتقدم طرابلس المدن المستقبِلة للمهاجرين بنسبة 14%، تليها بنغازي بـ11%، ثم مصراتة بـ10%، والكفرة بـ8%، والجفرة بـ7%.
أما من حيث بلدان المنشأ، فينحدر معظم المهاجرين من السودان (35%)، ثم النيجر (21%)، ومصر (19%)، وتشاد (9%)، ونيجيريا (3%)، وتوضح المنظمة أن الحرب المستمرة في السودان منذ العام الماضي تسببت في تدفق عشرات الآلاف من اللاجئين إلى ليبيا، حيث سجلت وجود أكثر من 311 ألف سوداني داخل أراضيها حتى منتصف العام الجاري.
تكلفة الوصول إلى ليبيا
بيانات المنظمة تكشف أن تكلفة الرحلة نحو ليبيا تختلف تبعاً للمنشأ الجغرافي. إذ يدفع المهاجرون القادمون من آسيا نحو 2840 دولاراً للوصول، بينما تبلغ التكلفة 1573 دولاراً لمهاجري الشرق الأوسط، و704 دولارات لدول شمال إفريقيا، و539 دولاراً فقط للمهاجرين من دول جنوب الصحراء.
ويصل معظم المهاجرين عبر النيجر (42%)، تليها السودان ومصر (19% لكل منهما)، ثم تشاد (13%)، اللافت أن 8% فقط من هؤلاء دخلوا ليبيا بطرق نظامية، بينما تحولت البلاد إلى معبر رئيسي للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.
ورغم أن نحو 88% من المهاجرين صرحوا بأن هدفهم الأساسي هو البقاء في ليبيا والعمل فيها، فإن 36% غيّروا خططهم لاحقاً باتجاه أوروبا عبر البحر المتوسط، فيما أعرب 41% عن عدم يقينهم بشأن المستقبل، وتشير هذه الأرقام إلى هشاشة الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي تجعل ليبيا محطة عبور مؤقتة أكثر منها وجهة مستقرة.
تعاون مع بريطانيا
في الشرق الليبي، أعلن اللواء خالد السرير، معاون رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية بالحكومة المكلفة من مجلس النواب، استعداد سلطات الشرق لتعزيز التعاون مع بريطانيا في ملف احتجاز وترحيل المهاجرين غير النظاميين، لكنه أشار في حديث إلى صحيفة "التلغراف" البريطانية إلى أن العقوبات الأممية المفروضة على ليبيا تعرقل الجهود الرامية لوقف تدفقات الهجرة وتمنع الحصول على المعدات التقنية الضرورية للمراقبة والإنقاذ.
وأكد السرير أن ليبيا ليست الوجهة النهائية للمهاجرين، بل نقطة اتصال أولى مع أوروبا، لافتاً إلى أن التعاون مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي يمكن أن يساعد في ضبط الحدود ومكافحة شبكات التهريب.
وتعاني السلطات الليبية، خاصة في الشرق، من ضعف الإمكانات اللوجستية لمراقبة الحدود الممتدة آلاف الكيلومترات مع مصر والسودان وتشاد والنيجر.
وتشير تقارير بريطانية إلى أن القوات التابعة للقيادة العامة تنفذ دوريات شهرية لمسح مناطق الصحراء، حيث تُكتشف أحياناً جثث عشرات المهاجرين الذين لقوا حتفهم عطشاً خلال الرحلة.
وتطالب السلطات الليبية برفع العقوبات المفروضة منذ 2011 لتمكينها من شراء طائرات مروحية ومسيّرات لمراقبة الصحراء، معتبرة أن المجتمع الدولي يطالبها بالتصدي للهجرة دون أن يمنحها الأدوات الضرورية لذلك.
ليبيا.. عقدة المتوسط
رغم محاولات السلطات الليبية ضبط الحدود والتعاون مع الشركاء الأوروبيين، فإن البلاد لا تزال نقطة عبور مركزية للهجرة الإقليمية، فبحسب المنظمة الدولية للهجرة، 85% من المهاجرين ينتمون إلى ثلاث دول فقط (النيجر، مصر، السودان)، ما يجعل من ليبيا محوراً رئيسياً في شبكة حركة بشرية معقدة تربط بين الصحراء الكبرى وسواحل أوروبا.
ويخلص خبراء الهجرة إلى أن معالجة الظاهرة لا يمكن أن تتحقق عبر الحلول الأمنية وحدها، بل تتطلب رؤية شاملة تتناول جذور الأزمة في دول المنشأ، وتحديات التنمية داخل ليبيا، ومسؤولية الاتحاد الأوروبي في توفير بدائل إنسانية للهجرة غير النظامية.