المبيدات السامة من الحظر إلى التصدير.. أزمة تكشف ازدواجية معايير الاتحاد الأوروبي
المبيدات السامة من الحظر إلى التصدير.. أزمة تكشف ازدواجية معايير الاتحاد الأوروبي
أظهرت بيانات وتحقيقات نشرت مؤخراً أن دول الاتحاد الأوروبي صدّرت نحو 122 ألف طن متري من مبيدات حشرية محظورة في دول الاتحاد خلال عام 2024، بزيادة تقارب 50 بالمئة مقارنة ببيانات 2018.
وتشير التحليلات إلى أن ثلاثة أرباع هذه الصادرات وُجهت إلى دول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث تكون أنظمة الحماية والرقابة أقل قدرة على الحد من مخاطر التعرض لمثل هذه المواد، بحسب “هيومن رايتس ووتش”.
تكشف هذه الأرقام أزمة ازدواجية معايير مقلقة بشأن مواد تُحظر للاستخدام داخل أوروبا لأن مخاطرها الصحية والبيئية "غير مقبولة"، لكنها ما تزال تُنتَج وتُصدَّر خارجها وفق شبكة "publiceye.ch".
لماذا تتكرر هذه الازدواجية؟
تتداخل ثلاثة عناصر متصلة في تفسير هذه الممارسة: الأول، مصالح صناعات الكيماويات ومصانع مبيدات الآفات التي تستفيد تجارياً من الأسواق الخارجية عندما تُقيدها القوانين المحلية؛ والثاني، ثغرات تنظيمية في القواعد الأوروبية التي سمحت حتى الآن باستمرار إنتاج بعض المواد الممنوعة داخل الاتحاد لأغراض التصدير، رغم وعود سابقة بوقف هذه الممارسات؛ أما الثالث، فيتمثل في ضعف وتفاوت الأطر الرقابية في البلدان المستوردة، حيث تُستخدم المواد دون احتياطات كافية أو معايير حماية غير كافية للعاملين والبيئة.
ومنذ إعلان استراتيجية كيميائية للاتحاد في 2020 والتزام المفوضية بالتعامل مع الصادرات السامة، أطلقت المفوضية مشاورات وإجراءات تقييم، لكن التحرك التشريعي الفعلي لم يظهر بالسرعة المطلوبة، ما ترك المجال لزيادة الصادرات.
الآثار المرصودة في المجتمعات الزراعية في بلدان مثل البرازيل وكوستاريكا والهند وفيتنام تتراوح بين تسمم حاد لعمال الحقول والنساء الحوامل مرورًا بمشكلات مزمنة كاضطرابات الغدد الصماء وسرطانات معينة، وصولاً إلى تلوث مصادر المياه والتربة وتقهقر التنوع الحيوي.
وأظهرت تحقيقات ميدانية وربط حالات تسمم بأدوية مبيدات مصنعة في أوروبا ارتفاع حالات المرض الحاد، وفي بعض الحالات الشلل وأضرار طويلة الأمد، كما وثقت تحليلات أن بعض المبيدات المصدرة تعود إلى أسواق الاتحاد الأوروبي عبر واردات غذائية محمَّلة ببقايا هذه المواد، ما يعكس حلقة مقلقة من "العودة" غير المباشرة لتأثيرات هذه المواد داخل أوروبا نفسها. ووصف باحثون ونشطاء هذه الظاهرة بأنها شكل من أشكال "الاستعمار الكيميائي" أو نقل المخاطر إلى المجتمعات الأضعف.
ردود المنظمات الحقوقية والبيئية
تفاعلت شبكات منظمات حقوق الإنسان والبيئة مع هذه البيانات برسائل مفتوحة حيث أرسلت خمس عشرة منظمة، منها هيومن رايتس ووتش، رسائل إلى مسؤولي الاتحاد ومشرّعيه تطالب بنشر تقييم الأثر الذي أطلقته المفوضية الأوروبية عام 2023 وباقتراح تشريع يمنع تصنيع وتصدير المبيدات المحظورة.
كما دعمت منظمات مدنية أوروبية ورؤساء حكومات وطنية مبادرات محلية تحظر التصدير، في حين جادلت منظمات ومدافعون أن فرض حظر سيحمي الصحة العالمية ولن يلحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد الأوروبي. في المقابل، دافعت شركات كبرى عن امتثالها للقوانين وبأن استخدام المنتجات يخضع لتدابير السلامة، لكن المنظمات الحقوقية ترى أن هذه الضمانات لا تسري فعلياً في مناطق ضعف الحماية.
الالتزام الذي أعلنته المفوضية في 2020 ضمن استراتيجية الكيماويات لم يترجم إلى اقتراح تشريعي محكم حتى الآن، رغم إطلاق مشاورات عامة وتقييم آثار منذ 2023.
بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تحرّكت محلياً، فقد اتخذت بلجيكا وفرنسا خطوات وطنية لحظر التصدير لبعض المبيدات، في حين تطالب منظمات المجتمع المدني المفوضية بنشر نتائج تقييم الأثر والزمنية المقترحة للتشريع قبل نهاية 2025، وفي البرلمان الأوروبي ثمة دعوات متصاعدة لضرورة إنهاء ازدواجية المعايير عبر حظر إنتاج وتصدير المواد المحظورة داخلياً.
الإطار القانوني الدولي
تخضع تجارة المبيدات الدولية لجملة من المعاهدات والإجراءات متعددة الأطراف، مثل اتفاقية روتردام التي تنظم إجراء "الموافقة الواطئة المسبق" بشأن بعض المواد الخطرة وتتيح للدول الواعدة رفض استيرادها، ومعاهدة ستوكهولم التي تنظم المواد السامة مستمرة التحلل البيولوجي، لكن هذه الآليات لا تمنع بالضرورة إنتاج مادة محظورة في بلد ما وتصديرها؛ بل تركز على تبادل المعلومات والحصول على موافقة مستنيرة من الدول المستوردة، لذلك يرى خبراء أن الحل القانوني الفعلي يتطلب إجراءات تنظيمية داخلية راسخة في البلدان المُصدِّرة، إلى جانب تعاون دولي أقوى لوقف تجارة المواد التي أثبتت مخاطرها.
تقارير ميدانية وتحقيقات صحفية ربطت بين زيادات صادرات مواد، مثل الديكلات والديكوات ومركبات أخرى، وبين تفشي حالات تسمم مزمنة وحادة في مناطق زراعية في البرازيل وكوستاريكا، كما كشفت دراسات وأجهزة رقابية عن وجود بقايا لمبيدات محظورة على فواكه وخضروات مستوردة إلى دول الاتحاد، ما يطرح سؤالاً حول ثغرات نظام الحدود وسلامة الغذاء.
توصيات ومطالب المجتمع المدني
تتفق التوصيات الصادرة عن منظمات المجتمع المدني والخبراء على مجموعة إجراءات عملية منها نشر نتائج تقييم الأثر فوراً، اقتراح قانون شامل يحظر تصنيع وتصدير المبيدات المحظورة في الاتحاد، وفرض رقابة صارمة على واردات الغذاء وخفض حدود بقايا المبيدات، ودعم بدائل زراعية آمنة وتقنيات إدارة الآفات غير الكيميائية في البلدان المستوردة، وتفعيل دعم مالي وتقني لتقوية أنظمة الحماية الصحية والبيئية في بلدان الجنوب لمنع وقوع أضرار محتملة، كما تطالب الشبكات بآليات مساءلة واضحة تضمن تحميل الشركات والحكومات مسؤولية الأضرار الموثقة.
البيانات الراهنة تضع أمام الاتحاد الأوروبي اختباراً أخلاقياً وقانونياً: إما الوفاء بالتزاماته التي أعلنها بوصفها قوة قيادية بيئية، أو الاستمرار في ممارسة ازدواجية تترتب عليها أضرار صحية وبيئية في أماكن لا تتحمل تبعاتها، فحماية الصحة والبيئة خارج الحدود لا تقل أهمية عن حمايتها داخلها، والإقرار بأن القيود المحلية لا تعني تصدير المخاطر مسؤولية سياسية وقانونية وأخلاقية لا يمكن تأجيلها، والمنطق العلمي والإنساني يحتم أن ما هو محظور لإيقاف ضرره داخل أوروبا يجب أن يُمنع أيضاً من أن يصبح سمة تصديرية تقتل وتسمم وتلوث في أماكن أخرى من العالم.