أرقام صادمة.. العقوبات الانفرادية تمزق نسيج المجتمعات وتنتهك حقوق الإنسان
أرقام صادمة.. العقوبات الانفرادية تمزق نسيج المجتمعات وتنتهك حقوق الإنسان
كشف تقرير أممي النقاب عن أبعاد مروعة للآثار الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية التي تخلفها التدابير القسرية الانفرادية، مع تقديم إحصائيات وأرقام دقيقة توثق حجم الدمار الذي تُلحقه هذه الإجراءات بحياة الملايين عبر العالم.
وبحسب التقرير الذي اطلع "جسور بوست" على نسخة منه، والصادر عن المقررة الخاصة المعنية بالأثر السلبي للتدابير القسرية الانفرادية في التمتع بحقوق الإنسان، ألينا دوحان، والمقدم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في دورته الـ60 التي تتواصل حتى 8 أكتوبر 2025، فإن هذه الإجراءات تتخذ أشكالاً عدة وتستهدف بشكل منهجي قدرات الدول على توفير أبسط مقومات الحياة لشعوبها.
وسجل التقرير تراجعاً كارثياً في المؤشرات الاقتصادية الأساسية للدول الخاضعة للعقوبات، ففي جمهورية فنزويلا البوليفارية، انخفض الدخل بالعملة الأجنبية انخفاضاً حاداً، من 74 مليار دولار في عام 2014 إلى 2.9 مليار دولار فقط في عام 2020، وهو انهيار كامل للقدرة الشرائية والتمويلية للدولة.
وفي السودان، أثرت العقوبات في التنمية الاقتصادية بشكل بالغ، حيث انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 45%، ما قوض أي أمل في التعافي أو بناء هياكل أساسية، ولم تكن سوريا بمنأى عن هذه الكارثة، حيث أدت العقوبات إلى تدمير الصناعات وانقطاع التجارة، ما أسفر عن فقدان مئات الآلاف للوظائف وارتفاع الأسعار بأكثر من 800% منذ عام 2019، ما دفع بأكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر.
تشويه سوق العمل
يقدم التقرير مشهداً قاتماً لأسواق العمل في البلدان المستهدفة، ففي سوريا، قفز معدل البطالة من 8.6% في عام 2011 إلى 13.2% في عام 2023، وفي العراق، ارتفع المعدل من 9% في عام 2003 إلى 15.4% في عام 2023، وفي أفغانستان، قفزت النسبة من 8% في عام 2001 إلى 14% في عام 2023، ولم يقتصر الأمر على ارتفاع البطالة فحسب، بل شهدت هذه الاقتصادات توسعاً هائلاً في "اقتصاد الظل"، حيث بلغت معدلات الوظائف غير الرسمية ما بين 30 إلى 40%، ووصلت في إيران إلى 30% وأحياناً أعلى، ما يعني حرمان ملايين العمال من أي حماية أو ضمان اجتماعي.
وبحلول شهر مايو 2024، بلغ معدل فقر العاملين في العديد من الدول الخاضعة للعقوبات مستويات قياسية، ففي مالي كانت النسبة 23.2%، أما في فنزويلا فبلغت 24.7%، ووصل في سوريا إلى 31.2%، وفي زيمبابوي 34.6%، وفي هايتي 42%، وارتفعت في جمهورية إفريقيا الوسطى إلى 72.8%.
وبلغت قيمة الحد الأدنى للأجور الشهرية في فنزويلا ما يعادل 1.35 دولار فقط، في حين كان في سوريا 12.4 دولار، وفي إريتريا 8.1 دولار، وهي أرقام لا تكاد توفر الحد الأدنى من الكفاف في ظل ارتفاع أسعار الغذاء، بحسب التقرير.
الأمن الغذائي على حافة الهاوية
ويُعتبر الحق في الغذاء من أكثر الحقوق تضرراً. يُعرِّف التقرير بانعدام الأمن الغذائي الحاد في مناطق كاملة من العالم، وكشف التقرير أن 90% من الإمدادات الغذائية في سوريا تعتمد على المساعدة الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. في حين قدرت الخسائر في إنتاج الحبوب في كوبا بسبب العقوبات بنحو 447 مليون دولار خلال موسم 2016-2017 وحده.
وفي منعطف أكثر قسوة، أدت العقوبات على روسيا إلى نقص عالمي في الأسمدة، حيث شكلت العقوبات الأوروبية على أسمدة البوتاس الروسية عائقاً أمام تمويل ما يصل إلى 20% من البوتاس في العالم، ما أدى إلى نقص عالمي وارتفاع في الأسعار وتهديد للأمن الغذائي في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وأفادت إسهامات في التقرير عن عواقب وخيمة على الحق في الصحة، ففي إيران، أدى نقص الأدوية إلى تأخر في تلقي العلاج وتزايد معدلات وفيات الأطفال المصابين بالسرطان، وفي زيمبابوي، أدى سحب التمويل الخارجي إلى تدمير تطوير المرافق الصحية، وفي كوبا، استحال شراء الأدوية بسبب حظر المدفوعات ورفض المنتجين المحتكرين بيع الأدوية المنقذة للحياة، وفي سوريا، أدى تدهور النظام الصحي إلى انتشار وباء الكوليرا الذي أصاب أكثر من 20,000 شخص في عام 2022.
وسجل التقرير ظاهرة جديدة وخطيرة، وهي قيام الدول التي تفرض العقوبات بمصادرة أصول وممتلكات الدول المستهدفة، فمنذ فبراير 2022، أفادت التقارير بمصادرة ممتلكات تزيد قيمتها عن 500 مليار دولار من أصول روسية، بما في ذلك احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية الروسية التي بلغت 300 مليار دولار، كما جمدت مجموعة الدول الغربية أصول المواطنين الروس بقيمة 30 مليار دولار.
آلية لتكبير دائرة العقوبات
وخصص التقرير جزءاً كبيراً لظاهرة «الامتثال المفرط»، حيث تقوم البنوك والمؤسسات المالية الخاصة، خوفاً من العقوبات الثانوية، بتطبيق إجراءات أكثر صرامة من المطلوب، على سبيل المثال، في فنزويلا، تأثر 81% من الشركات الخاصة سلباً بالعقوبات الاقتصادية والتجارية التي تفرضها الولايات المتحدة، حيث أغلقت حساباتها في النظام المالي وخطوط الائتمان في الولايات المتحدة.
وفي مثال صارخ على تأثير الامتثال المفرط في السلع الإنسانية، رفضت شركة إسبانية في فبراير 2024 شحنة دجاج إلى شركة كوبية لأن التشريع الأمريكي يحظر أن تكون الوجهة النهائية لأي شحنة هي دولة خاضعة لعقوبات.
وأكد التقرير أن ضرر العقوبات لا يقتصر على الدول المستهدفة. ففي أوزبكستان، أفادت التقارير بأن 15% من العمالة المؤهلة تعمل في بلدان ثالثة بسبب الأزمة الناجمة عن العقوبات، وفي ليتوانيا، ارتفع عدد طالبي اللجوء الإيرانيين في عام 2022 إلى أكثر من الضعف مقارنة بعام 2002، وبأكثر من خمسة أضعاف مقارنة بعام 2012، بسبب صعوبة الهجرة القانونية.
وتسببت العقوبات على الصين في خسائر للولايات المتحدة نفسها تقدر ما بين 15 إلى 19 مليار دولار من الصادرات إلى البلدان المستهدفة، ما أدى إلى خفض أكثر من 200,000 وظيفة في قطاع التصدير الأمريكي.
ودعت المقررة الخاصة في ختام تقريرها إلى رفع التدابير التي لا تتوافق مع القانون الدولي، وضمان عدم اعتبار إيصال المساعدات الإنسانية عملاً يعاقب عليه، وضمان عدم إعاقة تنفيذ القرارات الإنسانية لمجلس الأمن، واتخاذ جميع التدابير لتجنب وتقليل الامتثال المفرط.
كما حثت الدول الخاضعة للعقوبات على اتخاذ جميع الخطوات الممكنة للتخفيف من الأثر السلبي، وإبلاغ هيئات الأمم المتحدة بشكل منهجي عن التحديات التي تواجهها.
وشدد التقرير على أن العقوبات الانفرادية تشكل انتهاكاً واضحاً للمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتقوض بشكل صارخ قدرة العالم على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتدفع بالملايين إلى هاوية الفقر والجوع والمرض، ما يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً لوقف هذه المعاناة الإنسانية.