التشهير الرقمي والرقابة المؤسسية.. كيف تحولت وفاة كيرك إلى معركة على حرية الكلمة؟
التشهير الرقمي والرقابة المؤسسية.. كيف تحولت وفاة كيرك إلى معركة على حرية الكلمة؟
في العاشر من سبتمبر، وبينما كان يلقي كلمة في جامعة يوتا فالي، لقي الناشط اليميني تشارلي كيرك، البالغ من العمر 31 عامًا، مصرعه برصاص مسلح. لم تتوقف التداعيات عند حدود الجريمة نفسها، بل سرعان ما تحولت إلى أزمة وطنية أوسع تتعلق بحرية التعبير، والمساءلة السياسية، وحدود ما يُعد "لياقة عامة" في الفضاء الرقمي.
ففي أعقاب الاغتيال، أطلق سياسيون بارزون من التيار المحافظ، ومن بينهم شخصيات في إدارة الرئيس دونالد ترامب، دعوات إلى رصد ومحاسبة كل من يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي وكأنه "يحتفل" بموت كيرك، وقد أطلق السيناتور جيه دي فانس تصريحًا مثيرًا حين قال: “اتصلوا بهم، واتصلوا بصاحب عملهم، نحن لا نؤمن بالعنف السياسي، لكننا نؤمن باللياقة”، وبحسب ما أوردته صحيفة “الغارديان” البريطانية يوم الجمعة فقد فتح هذا الموقف الباب أمام حملة واسعة طالت موظفين، وأكاديميين، وإعلاميين، وحتى عاملين في مجالات الطيران والرعاية الصحية.
قرارات تأديبية جماعية
شهد الأسبوع الذي أعقب الاغتيال موجة غير مسبوقة من الطرد والفصل والإيقاف عن العمل في مختلف الولايات الأمريكية، في جهاز الخدمة السرية، أُوقف موظف عن عمله بسبب منشور على فيسبوك وصف فيه كيرك بأنه "يبث الكراهية والعنصرية"، كما أوقفت وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية موظفًا آخر على خلفية منشور وصفه بأنه "مسيء".
المؤسسات الإعلامية لم تكن بمنأى عن هذه العاصفة، فقد علّقت قناة ABC برنامج جيمي كيميل الشهير بعد تصريحاته الساخرة حول مقتل كيرك، بينما أنهت MSNBC تعاقدها مع المحلل السياسي ماثيو دود بعد أن لمح إلى أن خطاب كيرك ربما ساهم في تأجيج أجواء العنف، حتى صحفيون في صحف كبرى، مثل الكاتبة كارين عطية من "واشنطن بوست"، واجهوا قرارات بالفصل بدعوى "عدم الحساسية" في التعليق على الحادث.
الجامعات تحت الضغط
في المؤسسات الأكاديمية، بدا المشهد أكثر تعقيدًا، فجامعات عدة في ولايات مثل كارولينا الجنوبية وتكساس وتينيسي أعلنت عن فصل أساتذة وموظفين وطلاب بسبب منشورات اعتبرت "غير لائقة".
جامعة كليمسون طردت اثنين من أعضاء هيئة التدريس، بينما أنهت جامعة ولاية تكساس تسجيل طالب بعد سخرية علنية من مقتل كيرك. وفي جامعة تكساس للتكنولوجيا، فُصلت طالبة بعد مشاركتها في وقفة احتجاجية بطريقة وُصفت بأنها "مستفزة وغير محترمة".
هذه الإجراءات أثارت قلقًا بالغًا لدى جمعيات أكاديمية، وعلى رأسها رابطة أساتذة الجامعات الأمريكية، التي أكدت أن حماية الحرية الأكاديمية تظل "واجبًا أساسيًا" وأن الخضوع للضغط السياسي يهدد استقلال المؤسسات التعليمية.
شركات الطيران والمؤسسات الصحية
توسعت دائرة العقوبات لتشمل شركات الطيران، إذ أعلنت الخطوط الجوية الأمريكية ويونايتد إيرلاينز ودلتا تعليق أو فصل طيارين وموظفين اتهموا بالتعبير عن "احتفاء" بمقتل كيرك عبر منصاتهم الشخصية.
وفي قطاع الرعاية الصحية، أعلنت منظومة جامعة ميامي عن فصل أحد موظفيها، فيما تم إيقاف ممرضة في ميشيغان عن العمل بعد تصريحات مشابهة، وأكدت هذه المؤسسات أن حرية التعبير لا تعني القبول بأي خطاب يُفسر على أنه "تأييد للعنف".
الحرية تحت المجهر
المنظمات الحقوقية ومنظمات الحريات المدنية حذرت من أن هذه الحملة قد تمثل تهديدًا خطيرًا لحرية التعبير في الولايات المتحدة، الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وصف ما يحدث بأنه "سابقة مقلقة"، مشيرًا إلى أن التعديل الأول من الدستور يضمن حرية التعبير حتى عندما يكون الرأي صادمًا أو غير شعبي.
من جانب آخر، رأت منظمات مدافعة عن حرية الصحافة أن القرارات الجماعية بالفصل قد تعكس مناخًا جديدًا من الرقابة غير المباشرة، حيث تلعب ضغوط الرأي العام دورًا مساويًا –وربما أشد– من سلطة القانون في إسكات الأصوات.
الانقسام السياسي والاجتماعي
القضية سرعان ما تحولت إلى ساحة جديدة للصراع السياسي. المحافظون اعتبروا الإجراءات ضرورية لحماية السلم الأهلي و"القيم الأخلاقية"، بينما يرى كثير من الليبراليين والحقوقيين أن ما يحدث ليس سوى حملة منظمة لتكميم الأفواه وتقييد النقاش العام.
السيناتور ليندسي غراهام ذهب أبعد حين قال: "حرية التعبير لا تمنعك من أن يتم فصلك من وظيفتك إذا كنت غبيًا ولديك حكم ضعيف"، فهذه العبارة تلخص حالة الانقسام الحاد بين من يرى أن الوظيفة العامة تستوجب معايير صارمة للسلوك، ومن يصر على أن المنصات الخاصة ليست ميدانًا مشروعًا للعقاب الوظيفي.
القانون الدولي وردود الأفعال الأممية
في السياق الدولي، حذرت بعض المنظمات الأممية، مثل مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، من خطورة الانزلاق نحو "تجريم التعبير المشروع" تحت ذريعة محاربة خطاب الكراهية. وذكرت تقارير حقوقية أن "التوازن بين محاربة التحريض على العنف وحماية حرية التعبير يجب أن يظل دقيقًا"، داعية السلطات الأمريكية إلى تجنب "الانتقام الممنهج" ضد الأفراد بسبب آرائهم.
القانون الدولي لحقوق الإنسان، وخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يضع قيودًا محددة على الحكومات في فرض عقوبات على التعبير، ويشدد على أن هذه القيود يجب أن تكون "ضرورية ومتناسبة"، من هذا المنطلق، تثير الحملة الجارية في الولايات المتحدة أسئلة عن مدى التزامها بالمعايير الدولية.
لم يكن اغتيال تشارلي كيرك أول حادثة تعصف بالجدل حول حرية التعبير في الولايات المتحدة. في عقود سابقة، رافقت أحداث مثل اغتيال مارتن لوثر كينغ، أو الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، نقاشات مشابهة حول حدود النقد العام والحق في التعبير، إلا أن الفارق اليوم يكمن في اتساع نطاق وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة انتشار المواقف، ما جعل المحاسبة أشد وطأة وأكثر مباشرة، وأحيانًا بلا محاكمة أو تحقيق منظم.
تطرح هذه الأزمة سؤالًا جوهريًا حول مستقبل حرية التعبير في الولايات المتحدة. فبينما يصر السياسيون المحافظون على ضرورة فرض ضوابط أكثر صرامة على "خطاب الكراهية" أو "الشماتة في الموت"، تحذر المنظمات الحقوقية من أن المضي في هذا النهج سيقوض أحد أهم ركائز الديمقراطية الأمريكية.
ويبقى التحدي الأكبر أمام المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني هو إيجاد توازن يضمن حماية السلم الأهلي والكرامة الإنسانية، من دون التضحية بحرية الرأي التي يراها كثيرون خطًا أحمر.