تصاعد حدة العنف.. لماذا تصاعدت الاغتيالات السياسية في الولايات المتحدة؟
تصاعد حدة العنف.. لماذا تصاعدت الاغتيالات السياسية في الولايات المتحدة؟
تشهد الولايات المتحدة طفرة مقلقة في العنف السياسي، وصلت إلى مستويات لم تشهدها البلاد منذ عقد الستينيات، وقد أظهر تحليل بيانات صحفية وبحثية أعدته "بلومبرغ" أن السنوات الخمس الأخيرة سجّلت ارتفاعاً غير مسبوق في عمليات الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي استهدفت سياسيين وشخصيات عامة، وهو اتجاه بات يشكل تهديداً مباشراً لثبات النظام الديمقراطي وسلامة الحياة.
تضمنت السلسلة الأخيرة من الحوادث محاولتي اغتيال رُصِدتا في الفترة الماضية ضد الرئيس دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية في 2024 إضافة إلى قتل الناشط السياسي البارز تشارلي كيرك هذا الأسبوع في فعالية عامة بحرم جامعي، حالة أثارت موجة تنديد وقلقاً وطنياً.
وسجلت الصحف ودوائر البحث الأمني سجلت عشرات الحوادث العنيفة ذات الدوافع السياسية خلال العامين الأخيرين، فيما وثّرت مؤسسات بحثية أنماطاً جديدة للعنف السياسي تتجاوز خطوط الانتماء الحزبي.
أسباب متعددة ومعقّدة
خلف تصاعد الاغتيالات ومحاولات الاغتيال تتقاطع أسباب عدة منها: ازدياد الاستقطاب السياسي الذي جعل الخطاب السياسي أكثر عدائية وفصاماً، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم نظريات المؤامرة والتحريض، وسهولة الوصول إلى الأسلحة النارية بكثافة غير مسبوقة، وتدهور مؤسسات الثقة العامة التي كانت تعمل كمخمدات للتصعيد، وتشير الدراسات والسياسات إلى أن الاستقطاب البرلماني والأيديولوجي ازداد بوضوح خلال العقود الأخيرة، ما يخلق أرضية خصبة للعنف حين يتقاطع مع صدمات اقتصادية واجتماعية.
قياسات الانقسام الأيديولوجي في الكونغرس والبلد أظهرت اتساع الهوة بين الأطراف السياسية، وهو ما فسّره باحثون بأنه عامل يسهّل تقنين العداء السياسي ضمن مشهد أخلاقي جديد يرى الخصم ليس كسياسي بل كمهدد للأمة، وترافق ذلك مع دراسات تربط بين ارتفاع مستويات الاستقطاب وإمكانية تبلور قبول بأشكال العنف السياسي لدى شريحة معينة من الجمهور، رغم أن الدعم العام لاستخدام العنف يظل محدوداً لدى الغالبية.
ولا يمكن فصل هذا الارتفاع عن تفاقم مشكلة انتشار الأسلحة النارية في المجتمع الأمريكي، فالولايات المتحدة تملك أعلى معدلات امتلاك للأسلحة في العالم، وهو عامل فاعل يسهّل تنفيذ هجمات قاتلة بسرعة مروعة، وتربط المنظمات الصحية والبحوث العامة تربط بين وفرة الأسلحة وارتفاع معدلات القتل بالأسلحة، وهو واقع يضيف بعداً عملياً لتهديدات العنف السياسي.
الأمثلة الأخيرة على العنف السياسي شملت قتل ناشط محافظ خلال فعالية عامة في سبتمبر، ومحاولات اغتيال أخرى طالت شخصيات وطنية بارزة، وتلاها اعتقالات ومحاكمات لمرتكبين يُزعم انتماؤهم إلى حضانات أفكار متطرفة أو استخدموا خطاباً رقميًا تحريضيًا قبل ارتكاب الجريمة، والتغطية الإعلامية لم تخفِ أن نمطية هذه الأفعال تتقاطع مع انتشار مناخات سامة على الإنترنت ومحفزات نفسية واجتماعية لدى المنفذين.
ردود فعل الحقوقيين
أعربت منظمات حقوقية دولية ومؤسسات مدافعة عن الديمقراطية عن إدانتها للحوادث، ونددت بتغذية العنف بخطاب عام متصاعد، وصدر بيان من منظمات مثل فريدوم هاوس يدعو إلى وقف هذا النمط من العنف وإلى إجراءات من الدولة لحماية الفاعلية الديمقراطية، فيما دعا خبراء وسياسيون إلى خفض منسوب الخطاب التحريضي واتخاذ خطوات ملموسة لمعالجة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، ودعت الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بدورها إلى احترام سيادة القانون وعدم التسامح مع استخدام العنف كأداة سياسية.
تصاعد الاغتيالات يؤدي إلى نتائج مباشرة تشمل تقليل الجهر بالآراء، وتراجع الحضور العام للشخصيات السياسية، وتشديد الإجراءات الأمنية المكلفة، وفتح الباب أمام قانونية ممارسات أمنية قد تُقوّض حرية التجمع والتعبير، كما يحمل ذلك احتمال إشعال ردود فعل عنيفة متماثلة، ما يهدد بدخول موقف انتقامي يسرّع حلقة عنف متصاعدة قد تكون أصعب كثيراً في السيطرة عليها.
خبراء السياسة العامة والأمن يدعون إلى مقاربة متعددة المسارات تتضمن حزمة تشريعات حقيقية للحد من وصول الأسلحة إلى الأشخاص الخطرين، وتعزيز برامج مواجهة التطرف العنيف على الإنترنت، وإعادة بناء مؤسسات الوساطة المدنية ومحاكمات سريعة ومنصفة لحالات التحريض، وتأهيل شبكات الإنذار المبكر التي تربط بين أجهزة الأمن والمجتمع المدني والمؤسسات الصحية والنفسية، كما تقترح دراسات ضرورة تخفيف منسوب الاستقطاب عبر سياسات تعليمية وإعلامية تعيد بناء التشارك المدني.
التجربة الأمريكية ليست بعيدة عن أحداث عنف سابقة، فقد شهدت ستينيات القرن الماضي موجة اغتيالات سياسية هزت البلاد، ومن ثم تولدت إصلاحات أمنية واجتماعية، ويظهر التاريخ أن انحدار الخطاب العام وغياب وسائل احتواء السياسية يمكن أن يقود إلى تكرار مآسٍ مشابهة ما لم تتخذ المجتمعات خطوات وقائية حاسمة.
ارتفاع قياسي في الاغتيالات السياسية ليس مسألة أمنية فحسب، إنه اختبار لمرونة الديمقراطية الأمريكية وقيمها المؤسساتية، فالتعامل مع الظاهرة يتطلب جرعات من القيادة المسؤولة، وإجراءات أمنية ذكية توازن بين الحماية والحريات، وسياسات طويلة الأمد لمعالجة جذور الاستقطاب والتطرف.