فلسطين والسودان وأفغانستان.. أزمات تكشف عجز العالم وتتحدي مصداقية الأمم المتحدة

فلسطين والسودان وأفغانستان.. أزمات تكشف عجز العالم وتتحدي مصداقية الأمم المتحدة
الجمعية العامة للأمم المتحدة

مع انطلاق اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، من الثاني والعشرين حتى الثلاثين من سبتمبر، تتصاعد الدعوات من منظمات حقوقية دولية أبرزها هيومن رايتس ووتش إلى القادة العالميين بضرورة الالتزام الجاد بحماية منظومة الأمم المتحدة، وصيانة رسالتها الأساسية في الدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة الدولية.

هذه المطالب تأتي في وقت تتعرض فيه المنظمة الأممية لأكبر اختبار في تاريخها الحديث، وفق ما ذكرته "هيومن رايتس ووتش" الأربعاء، وسط محاولات قوى كبرى تقويض قدرتها عبر خفض التمويل والتشكيك في آلياتها الرقابية والقضائية.

قمة فلسطين ورسائل الضغط الحقوقية

قبل بدء النقاشات العامة، يلتئم مؤتمر خاص حول فلسطين، يشارك في رئاسته الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ويعكس الحدث حجم الأزمة التي تضع القضية الفلسطينية في قلب أجندة العالم، وطالبت منظمات حقوقية دولية القادة باستخدام هذا المؤتمر منصة لإجراءات ملموسة، وليس مجرد تصريحات سياسية. 

ويأتي ذلك بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية في يوليو 2024 أكد أن الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد للأراضي الفلسطينية غير قانوني، وأنه يشكل انتهاكاً صارخاً لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، مع توصيف سياسات إسرائيل بالفصل العنصري.

الأزمات الإنسانية تتفاقم

من غزة إلى أوكرانيا والسودان وهايتي، تواجه الأمم المتحدة تحديات إنسانية غير مسبوقة. وفي غزة تتواصل الغارات الإسرائيلية التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، مع انهيار شبه كامل للبنية التحتية الصحية، وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أنّ أكثر من 80 في المئة من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة يحتاجون إلى مساعدات عاجلة للبقاء على قيد الحياة. وفي السودان وثّقت تقارير أممية انتشار العنف الجنسي بصفته سلاح حرب، وتجاوز عدد النازحين داخلياً ثمانية ملايين شخص في أقل من عام، في حين يعيش أكثر من 20 مليوناً في حالة انعدام حاد للأمن الغذائي، وفي هايتي، أدت سيطرة العصابات المسلحة إلى نزوح مئات الآلاف، وسط تقارير عن اغتصاب جماعي وانهيار الخدمات الأساسية.

أزمة التمويل وتداعياتها

الأمم المتحدة تعاني من عجز مالي خطِر، فالولايات المتحدة التي كانت تسهم بأكثر من 13 مليار دولار في 2023، أوقفت تقريباً جميع إسهاماتها هذا العام. الصين، ثاني أكبر ممول، تأخرت بدورها في دفع حصصها، أما الدول الأوروبية، فاتبعت سياسة تقشفية في المساعدات الخارجية، وهذه الأزمة المالية تهدد مباشرة برامج التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ومهام حفظ السلام، فضلاً على جهود الإغاثة في مناطق الصراع، وحذرت تقارير داخلية في الأمم المتحدة من أن مبادرة خفض التكاليف "UN80" قد تقلص قدرات المنظمة على تنفيذ ولاياتها الأساسية إذا لم تُستثنَ البرامج الحقوقية والإنسانية من التخفيضات.

الضغوط على العدالة الدولية

الأزمة لا تتوقف عند التمويل، بل تمتد إلى تهديد منظومة العدالة الدولية، حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وستة قضاة ومسؤولين أمميين بارزين بسبب تحقيقاتهم في جرائم حرب محتملة بفلسطين وأوكرانيا، وهذه الخطوة وصفتها منظمات حقوقية بأنها "اعتداء سافر على سيادة القانون"، وتهدف لعرقلة مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة. وفي المقابل، طالبت هيومن رايتس ووتش ودول أوروبية بسن قوانين لمواجهة أثر العقوبات خارج نطاقها، مثل تشريعات الاتحاد الأوروبي الرامية لحماية المؤسسات والشركات من الضغوط الأمريكية.

مواقف المجتمع الدولي المتباينة

بينما أعلنت فرنسا والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا نياتها في الاعتراف بدولة فلسطينية، تحذر منظمات حقوقية من أن الوعود الدبلوماسية دون خطوات عملية ستبقى "حبرًا على ورق"، وهذه الخطوات لا تكتمل إلا بوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، وحظر التعامل مع المستوطنات غير الشرعية، وفرض عقوبات فردية على المسؤولين عن الانتهاكات المستمرة. في المقابل، يُنتظر من القادة أيضاً الضغط على الفصائل الفلسطينية المسلحة لإطلاق سراح الأسرى المدنيين، تأكيداً لمبدأ شمولية العدالة الإنسانية.

أزمات ممتدة

الأمم المتحدة طالما واجهت انتقادات بشأن عجزها عن حل الأزمات الممتدة، فمنذ تأسيسها عام 1945، ارتبطت القضية الفلسطينية بتاريخ المنظمة نفسها، بدءاً من قرار التقسيم عام 1947، مروراً بالقرارات المتكررة حول الانسحاب من الأراضي المحتلة، لكن غياب آليات إلزامية لتنفيذ القرارات جعل المنظمة عرضة للشلل في مواجهة القوى الكبرى، وكشفت أزمات أخرى مثل رواندا في التسعينيات أو حرب البوسنة، أيضاً حدود قدرة الأمم المتحدة حين تتعارض القيم الإنسانية مع مصالح سياسية دولية.

تحديات المستقبل ومعركة المناخ

لا يقتصر ملف العدالة الدولية على النزاعات المسلحة، فمحكمة العدل الدولية اعتبرت في رأيها الأخير أن تغير المناخ تهديد وجودي للبشرية، وأن تقاعس الدول عن مكافحته يحمل تبعات قانونية، وهذا يفتح الباب أمام مساءلة الحكومات ليس فقط عن الانتهاكات المباشرة لحقوق الإنسان، بل أيضاً عن فشلها في حماية الكوكب وسكانه من الكوارث البيئية.

توصيات المنظمات الحقوقية

منظمات المجتمع المدني والحقوقية ترى أن الإجراءات العاجلة يجب أن تشمل: استعادة التمويل الكامل لبرامج الأمم المتحدة، خاصة المتعلقة بحقوق الإنسان والإغاثة، ودعم المحكمة الجنائية الدولية ومقاومة محاولات تقويض عملها، وكذلك فرض آليات عملية لحماية المدنيين في بؤر الصراع، ومنه بعثات حماية أو ممرات إنسانية، إلى جانب المضي في مفاوضات معاهدة دولية تجرم بشكل صريح الجرائم ضد الإنسانية، ومن ذلك الفصل العنصري على أساس النوع الاجتماعي.

الاجتماعات الجارية في نيويورك ليست مجرد مناسبة بروتوكولية، بل تمثل اختباراً لمصداقية المجتمع الدولي في حماية منظومة حقوق الإنسان، فإما أن يلتزم القادة بتعهدات ملموسة في التمويل، والمساءلة، وحماية المدنيين، وإما أن يتركوا ملايين البشر عرضة لمزيد من العنف والجوع والتهميش، وفي لحظة يصفها مراقبون بـ "المنعطف التاريخي"، يبدو أن ما ستقرره الأمم المتحدة ودولها الأعضاء سيحدد مستقبل العدالة الدولية، ومصير ملايين المحتاجين إلى صوت وعدالة لا تزال غائبة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية