أرقام مفزعة عن عمالة الأطفال.. جريمة متجددة في ثوب الرق المعاصر

أرقام مفزعة عن عمالة الأطفال.. جريمة متجددة في ثوب الرق المعاصر
عمالة الأطفال- أرشيف

قدّم المقرر الخاص المعني بأشكال الرق المعاصرة، تومويا أبوكاتا، تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ60 التي تتواصل حتى 8 أكتوبر 2025، كاشفًا عن صورة صادمة لواحدة من أبشع الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، حيث يظل ملايين الأطفال حول العالم عالقين في دوامة العمل القسري والاستغلال، محرومين من طفولتهم ومن حقوقهم الأساسية في التعليم والصحة والكرامة.

التقرير، الذي اطلع «جسور بوست» على نسخة منه، وضع عمالة الأطفال في قلب النقاش الأممي بوصفها شكلًا معاصرًا من أشكال الرق، تتغذى على الفقر والتهميش، وتستفيد منها مصالح اقتصادية عابرة للحدود.

وجه خفي للرق الحديث

أكد أبوكاتا أن عمالة الأطفال لم تعد مجرد مسألة اجتماعية أو اقتصادية مرتبطة بالفقر، بل أصبحت منظومة معقدة من الاستغلال تشبه الرق في أشكاله التقليدية، الأطفال يُجبرون على العمل في مزارع القطن والكاكاو، وفي مناجم المعادن النادرة، وفي المصانع وورش الملابس، وحتى في الأعمال المنزلية والأنشطة الإجرامية، مثل تهريب المخدرات أو التسول المنظم.

ويحرم هذا الواقع الأطفال من أبسط حقوقهم ويضعهم تحت رحمة أصحاب العمل الذين يعاملونهم كأدوات إنتاج رخيصة قابلة للاستبدال.

بحسب التقرير، يقدر عدد الأطفال العاملين حول العالم بأكثر من 160 مليون طفل، أي ما يعادل واحدًا من كل عشرة أطفال، نصف هؤلاء تقريبًا يعملون في أعمال خطرة تعرض حياتهم وصحتهم للخطر، أما الأخطر، فهو وجود 8.4 مليون طفل مجبرين على أداء أعمال ذات طبيعة عبودية، تشمل العمل القسري والاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي التجاري.

هذه الأرقام، وفق أبوكاتا، تكشف أن العالم يواجه أزمة إنسانية من الدرجة الأولى، تتطلب تحركًا عاجلًا يتجاوز حدود السياسات الوطنية.

الفقر ليس التفسير الوحيد

على الرغم من أن الفقر يُعد عاملًا رئيسيًا يدفع الأطفال إلى سوق العمل، إلا أن المقرر الخاص شدد على أن الظاهرة تتغذى على مصالح اقتصادية هائلة؛ شركات كبرى، خاصة في قطاعات الزراعة والتعدين وصناعة الملابس، تستفيد من اليد العاملة الرخيصة التي يوفرها الأطفال، غالبًا عبر سلاسل توريد معقدة تخفي ممارسات الاستغلال خلف واجهات قانونية.

هذا التواطؤ بين الشركات المحلية والعابرة للحدود، في ظل ضعف الرقابة والمساءلة، يجعل من القضاء على عمالة الأطفال مهمة شاقة لكنها ضرورية. بحسب التقرير.

وكشف التقرير عن أن الفتيات يتحملن العبء الأكبر من عمالة الأطفال، إذ يُجبرن على أداء أعمال منزلية مرهقة إلى جانب رعاية الأسرة، بينما يتعرضن أيضًا لأشكال متعددة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، من الاستغلال الجنسي إلى الزواج القسري.

هذه الانتهاكات وفق التقرير، تسلب الفتيات مستقبلًا كاملًا، وتكرس أنماطًا متجددة من التمييز والفقر تنتقل من جيل إلى آخر، ما يجعل معركتهن ضد عمالة الأطفال معركة مزدوجة: ضد الاستغلال وضد التمييز.

التعليم المفقود.. جرح لا يندمل

أحد أكثر الجوانب مأساوية التي سلط عليها التقرير الضوء هو حرمان الأطفال من التعليم. فملايين الأطفال العاملين يتسربون من المدارس أو لا يلتحقون بها أصلًا، ما يحرمهم من فرص بناء حياة أفضل.

وأشار أبوكاتا إلى أن الاستمرار في هذا المسار يعني خلق جيل كامل محكوم عليه بالبقاء في دائرة الفقر والاستغلال، فالتعليم، بحسب التقرير، ليس رفاهية، بل هو الخط الدفاعي الأول ضد عمالة الأطفال، والاستثمار فيه يُعد حجر الزاوية لأي حل مستدام.

ولا يقف أثر عمالة الأطفال عند حدود ضياع التعليم، بل يمتد إلى تداعيات صحية ونفسية عميقة، فكثير من الأطفال العاملين يتعرضون لإصابات خطيرة في مواقع العمل، أو أمراض مزمنة نتيجة ظروف العمل غير الآمنة. كما أن الحرمان من الطفولة والضغوط المستمرة يولدان مشكلات نفسية خطيرة، من الاكتئاب إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور الدائم بالهامشية.

قصور في التشريعات والتنفيذ

وحمّل المقرر الخاص الحكومات مسؤولية مباشرة عن استمرار هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن العديد من الدول تفتقر إلى تشريعات قوية أو آليات فعالة لإنفاذ القوانين. حتى في الحالات التي تُسن فيها القوانين، فإن الفساد وضعف الرقابة يجعلان من تطبيقها أمرًا شكليًا.

وأضاف أبوكاتا أن غياب نظم الحماية الاجتماعية القوية يدفع الأسر الفقيرة إلى الاعتماد على دخل أبنائها، ما يجعل الأطفال أول من يُضحّى بحقوقه عند وقوع الأزمات الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية.

على الرغم من أن التقرير ركز على الأبعاد الكلية للظاهرة، فإنه أشار إلى أن وراء كل رقم قصة إنسانية موجعة، طفل يعمل في منجم بدائي مقابل دولار واحد يوميًا، أو فتاة تُجبر على العمل كخادمة منزلية وتتعرض للعنف الجسدي، أو صبي يُستغل في زراعة غير قانونية.

هذه القصص، بحسب أبوكاتا، يجب أن تظل في صميم أي مقاربة للظاهرة، لأن الأرقام وحدها لا تكفي لتجسيد حجم المأساة الإنسانية.

وفي ختام تقريره، دعا أبوكاتا إلى مقاربة شاملة تقوم على ثلاثة محاور: تعزيز التعليم المجاني والإلزامي لضمان بقاء الأطفال في المدارس، وتوسيع برامج الحماية الاجتماعية لدعم الأسر الفقيرة ومنع اضطرارها لدفع أطفالها للعمل ومحاسبة الشركات التي تستفيد من عمالة الأطفال عبر سلاسل التوريد.

وأكد أن المجتمع الدولي ملزم بتقديم الدعم الفني والمالي للدول التي تواجه أعلى معدلات الظاهرة، لأن استمرارها يهدد التنمية والعدالة الاجتماعية على نطاق عالمي.

وحذر المقرر الخاص من أن استمرار الظاهرة على هذا النحو يعني ضياع جيل كامل، مع ما يحمله ذلك من تداعيات كارثية على المجتمعات والاقتصادات.

وأكد أن القضاء على عمالة الأطفال ليس مجرد التزام أخلاقي، بل ضرورة إنسانية عاجلة تتطلب تحركًا دوليًا منسقًا، يضع حقوق الأطفال في قلب السياسات الاقتصادية والاجتماعية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية