ظاهرة كارلسون.. الرأي العام الغربي ينقلب على الرواية الإسرائيلية
ظاهرة كارلسون.. الرأي العام الغربي ينقلب على الرواية الإسرائيلية
منذ السابع من أكتوبر 2023 تغير المشهد العالمي بصورة جذرية، فحرب الإبادة في غزة وهول الفواجع التي اقترفها نتنياهو ضد الأطفال والنساء تسببا بتصدع عميق في الرأي العام الغربي، الذي ظل لعقود يتبنى الرواية الإسرائيلية ويؤمن بأن إسرائيل "تدافع عن نفسها"، لكن تلك الرواية التي كانت تحظى بدعم عواصم التأثير الغربية بما تمتلكه من تفوق سياسي وإعلامي، لم تعد كما كانت حقيقة مطلقة لا أحد يجرؤ على مناقشتها، إذ برز اليوم تيار عالمي واسع يحمل رواية مضادة للرواية الصهيونية.
وبرز تيار جديد من أبرز رموزه الإعلامي الأمريكي الشهير تاكر كارلسون، الذي خرج من عباءة الإعلام التقليدي المحافظ ليقود مواقف غير مسبوقة ضد السردية الصهيونية، مستخدماً أدوات الخطاب الغربي نفسه ومن داخل مؤسساته، وهنا تكمن المفارقة، أن "الانتفاضة" ضد إسرائيل تأتي اليوم من حيث لا تتوقع.
ففي برامجه ومقابلاته، انتقد تاكر صراحة ازدواجية المعايير، والأكذوبة التي تصور إسرائيل كضحية محاطة بالأعداء، بينما هي في الواقع واحدة من أكثر الدول تسليحاً وتفوقاً تكنولوجياً. وسأل كارلسون المشاهد الأمريكي، كيف يمكن لدولة تمتلك القنبلة النووية وأحدث الطائرات الأميركية أن تدعي أنها ضحية؟
وما يجعل الظاهرة أعمق من مجرد موقف فردي عابر هو اتفاقها مع جيل مختلف لا يشبه الأجيال السابقة، "جيل زد"، الذي ولد في عالم الإنترنت المفتوح، لا يقرأ الصحف الورقية ولا ينتظر نشرات الأخبار، بل يتشكل وعيه اليوم من خلال "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" وغيرها من التطبيقات حيث صور الأطفال تحت الأنقاض ومقاطع الأمهات اللاتي يبحثن عن أولادهن تحت الركام، وكثير من المشاهد الصادمة التي لا يمكن تبريرها تحت أية ذريعة، ولا يمكن أن تخضع لتدخلات الرقيب التقليدي.
إن تراجع التأييد لإسرائيل في استطلاعات الرأي الغربية ليس محض إشاعة، فبحسب مراكز مثل "بروكينغز" و"بيو"، فإن غالبية الشباب الأميركيين اليوم يرون أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، وأن الرواية التي روجت لها لعقود حول "الدفاع عن النفس" فقدت صدقيتها.
هذه النتائج لا تعني فقط تغير المزاج الشعبي، بل تبشر بتحول طويل الأمد في السياسات الغربية ذاتها، لأن الديمقراطيات الغربية في نهاية المطاف تسير حيث يسير الناخب، وإذا كانت إسرائيل نجحت سابقاً في السيطرة على الإعلام التقليدي، فإنها اليوم تخسر المعركة في الفضاء الرقمي، إذ لا تنفع البيانات الحكومية ولا بيانات الجيش، فهناك بث مباشر من غزة وملايين الحسابات التي تنقل صوراً حية لجرائم الاحتلال، وتفضح كل رواية مزيفة.
وأدركت إسرائيل اليوم أن المعركة لم تعد في الميادين التقليدية فحسب، لذلك انتقلت إلى ميادين الخوارزميات وتشكيل الوعي، في محاولة متأخرة لاستعادة ما خسرته من تعاطف غير مشروط. فقد كشفت تقارير أميركية عن أن وزارة الخارجية الإسرائيلية استعانت بالمدير الرقمي السابق لحملة دونالد ترمب، براد بارسكال، عبر شركته (Clock Tower X) لتصميم حملة إعلامية رقمية تستهدف جيل الشباب في الولايات المتحدة، تتضمن إنتاج محتوى شهري ضخم موجه عبر "تيك توك" و"يوتيوب" و"إنستغرام" و"البودكاست" للوصول إلى عشرات الملايين من المشاهدات.
وكُشف عن اجتماعات جمعت بنيامين نتنياهو بعدد من المؤثرين الأمريكيين، تحدث فيها صراحة عن ضرورة "دعمهم للرواية الإسرائيلية في وسائل التواصل الاجتماعي"، مؤكداً أن السيطرة على منصات مثل "إكس" و"تيك توك" تمثل الخطوة الأولى في كسب "عقول الجيل القادم".
لقد انهارت الرواية الإسرائيلية أمام أنظار العالم، ليس لأن الفلسطينيين غيروا خطابهم أو لأن "حماس" نجحت بمغامرتها، بل لأن العالم تغير. جيل الإنترنت لم يعد يصدق ما يقال له، بل ما يراه. فإسرائيل اليوم ليست في عزلة سياسية فحسب بل في عزلة سردية، إذ لم تعد قادرة على إقناع العالم بأنها الضحية ولا على إخفاء جرائمها، وهي تواجه للمرة الأولى خصماً لم تعرفه من قبل، جيل لا يستمع إلى دعايتها.
وهذا التحول في الرأي العام الغربي يمثل فرصة تاريخية للعرب والفلسطينيين لإعادة صياغة خطابهم، ومخاطبة الأجيال الجديدة بلغتها وعبر منصاتها، وتطويع هذا الانقلاب السردي لصالحهم، حتى لا يكون مجرد "ترند" عابر.
نقلا عن صحيفة "إندبندنت عربية"