بين الخياطة والأنقاض.. كيف تُعيد نساء أفغانستان بناء حياتهن بخيوط الأمل

بين الخياطة والأنقاض.. كيف تُعيد نساء أفغانستان بناء حياتهن بخيوط الأمل
الناشطة مينا جلال

كانت الأرض لا تزال ترتجّ تحت أقدام النساء حين وصلت مينا جلال إلى ولاية كنر المنكوبة.. كانت رائحة الغبار تمتزج ببكاء الأطفال، وصرخات النساء اللواتي فقدن كل شيء في لحظة.

لم يكن في يدها سوى حقيبة صغيرة تحوي أدوات طبية وبعض القماش، لكن في قلبها كانت تحمل أكثر من ذلك بكثير.. إيماناً بأن المرأة لا تنكسر، مهما انهار حولها العالم.

جلست مينا على أنقاض منزلٍ تهدّم بالكامل، وبدأت تُضمّد جراح امرأة عجوز أصيبت في رأسها.. وحولها كانت النساء يتحلّقن بصمت، ينظرن إليها كمن يرى أملاً يتسلل من تحت الركام.

قالت إحداهن بصوتٍ مبحوح: "ظننا أن أحدًا لن يأتي إلينا.. لكنك جئتِ".

امرأة تصنع التغيير 

لم تبدأ قصة الناشطة مينا جلال هنا.. فقبل الزلزال بسنوات، كانت تلك الشابة الأفغانية تؤمن بأن الحرية لا تُمنح، بل تُكتسب، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الخميس.

وفي بلدٍ شهد خلال عقدين من الزمن قيام عشرات المؤسسات النسائية التي حملت شعارات براقة وملأت المؤتمرات الدولية، رأت مينا أن كثيرًا منها لم يكن أكثر من واجهة لفساد مقنّع، جمع المال باسم المرأة وتركها تواجه مصيرها وحدها.

لكنها، على عكسهم، قررت أن تبني شيئًا حقيقيًا، وفي عام 2018، أسست مؤسسة "أصوات النساء"، وبدأت رحلتها من القرى الفقيرة في ننكرهار ولغمان وكنر ونورستان، حيث تعمل النساء في صمت بعيدًا عن ضجيج السياسة.

تقول مينا بابتسامة حذرة: “أنا لا أقدّم صدقات، بل أقدّم بداية جديدة.. عندما تتعلم المرأة مهنة، تشتري لنفسها كرامتها".

من خلال برامج التدريب المهني والخياطة، استطاعت المؤسسة تمكين أكثر من 700 امرأة. لم تكن الأرقام هدفها، بل القصص.

كل ماكينة خياطة كانت تمثّل بيتًا أعيد بناؤه، وامرأة استعادت قدرتها على الحلم.

من المشاريع إلى المعجزات

في إحدى ورش الخياطة التابعة للمؤسسة، تجلس فاطمة -أرملة في الثلاثين- تنظر إلى قطعة قماش وردية بخيوط فضية.

قبل عامين، كانت هذه المرأة تبيع الخبز أمام باب منزلها المتهدم، أما اليوم فهي تدير مشروعها الصغير وتعلّم نساء أخريات.

تقول وهي تخفي دمعة فخر: “لم أكن أعرف أني أستطيع أن أعيش من عملي.. الآن ابنتي تذهب إلى المدرسة بفضل ما أكسبه بيدي".

قصص كهذه لا تُروى في المؤتمرات، لكنها تُحاك بصمت داخل الخيم التي نصبتها مؤسسة "أصوات النساء"، حيث تتحول المعاناة إلى مهارة، واليأس إلى تصميم.

حين ضرب الزلزال

عندما ضرب الزلزال ولاية كنر، لم تنتظر مينا دعوة من الحكومة أو تصريحًا من جهةٍ ما.. جمعت فريقها من متطوعات وطبيبات وقرّرت الذهاب إلى هناك رغم الطرق المقطوعة.

"كانت الأرض ترتجف والسماء تمطر حجارة"، تروي مينا، "لكننا كنا نعلم أن هناك نساءً لا يجرؤن على الخروج لطلب المساعدة، لأن ثقافة المنطقة لا تسمح لهن بمراجعة أطباء رجال".

على مدار ثلاثة أيام، عمل الفريق في ظروف قاسية، عالج الجرحى، ووزّع الطعام والأدوية.. لكن ما ترك الأثر الأعمق لم يكن فقط الدواء، بل الاحتواء.

"كنا نبكي مع النساء، نحمل أطفالهن، نغسل وجوههن بالماء.. هذه ليست مجرد إغاثة، إنها مشاركة في الألم".

أطفال بلا غذاء ولا نوم

في وادي مزار، كان الأطفال أكثر المتضررين.. تقول مينا: "تسعة أيام مرّت دون أن تصل إليهم أي مساعدات، ناموا على الأرض، ونام الجوع في عيونهم".

أصيب معظمهم بالإسهال والحمى بسبب نقص الغذاء والمياه، ومع ذلك كانت هناك أمهات يقفن في الطوابير حاملات أطفالهن، يطلبن فقط دواءً يخفف الألم.

في تلك اللحظات، أدركت مينا أن الحرب والفقر والكوارث وجهٌ واحد لقسوة الحياة في أفغانستان.

رسالة إلى نساء البلاد

بعد عودتها من كنر، جلست مينا في مكتبها المتواضع في كابول، تنظر إلى صور النساء اللواتي التقت بهن.

رفعت رأسها وقالت: "أنا أؤمن أن على النساء اللواتي تعلمن القراءة ألا ينسين من لا صوت لهن. لسنا في سباقٍ مع الرجال، بل في سباق مع اليأس".

في بلدٍ لم يهدأ منذ نصف قرن، تواصل مينا جلال ورفيقاتها خياطة الحياة بخيوطٍ من الأمل.

لا يمتلكن موارد ضخمة، ولا حمايات سياسية، لكنهن يمتلكن ما هو أثمن: الإصرار على أن الإنسانية لا تموت حتى في قلب العتمة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية