انتهاكات متكررة.. تآكل سيادة القانون في المجر يهدد الديمقراطية الأوروبية
انتهاكات متكررة.. تآكل سيادة القانون في المجر يهدد الديمقراطية الأوروبية
قبل أيام من اجتماع حاسم لمجلس الاتحاد الأوروبي، تصاعد الجدل داخل القارة بشأن الانتهاكات المتكررة لسيادة القانون في المجر، العضو الذي تحول في نظر العديد من الشركاء الأوروبيين إلى نموذج مقلق لتراجع الديمقراطية داخل الاتحاد ذاته.
منظمة هيومن رايتس ووتش حذرت في تقرير حديث –وفق موقعها الرسمي باللغة الإنجليزية- من أن استمرار الحكومة المجرية في سياساتها التي تقوّض استقلال القضاء وحرية التعبير والتجمع يشكل تهديدًا مباشرًا لقيم الاتحاد الأوروبي الأساسية المنصوص عليها في معاهدة لشبونة، داعية الدول الأعضاء إلى التصويت بموجب المادة السابعة لإقرار أن المجر تواجه خطرًا واضحًا بانتهاك خطير لهذه القيم.
وخلال السنوات الأخيرة، اتخذت حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان خطوات متسارعة لتوسيع قبضتها على مؤسسات الدولة، وفق منظمات حقوقية أوروبية ودولية، وأقرّ البرلمان المجري تعديلات دستورية تسمح بتقييد حرية التجمع، وحظر الفعاليات العامة لمجتمع مزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيًا، تحت مبرر “حماية الطفل”، كما منحت التعديلات السلطات صلاحية سحب الجنسية من مزدوجي الجنسية لأسباب وصفت بأنها غامضة وتتعلق بالأمن القومي.
وتشير منظمات المجتمع المدني إلى أن هذه الإجراءات ليست سوى جزء من مسار متكامل لتفكيك مؤسسات الرقابة الديمقراطية، فقد وُضع مشروع قانون جديد تحت مسمى “شفافية الحياة العامة” يمنح “مكتب حماية السيادة” سلطات واسعة للتحقيق في منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة التي تصنف بأنها “خاضعة لتأثير أجنبي”، مع إمكانية تجميد تمويلها أو حلّها، ورغم تعليق القانون مؤقتًا إثر انتقادات داخلية وخارجية، أكدت الحكومة المجرية عزمها على المضي في تشريعه لاحقًا.
تضييق على الإعلام والقضاء
تواجه المؤسسات الإعلامية المستقلة ضغوطًا متزايدة من قبل السلطات، التي تلجأ إلى أدوات رقابية وممارسات تشهير علنية بحق الصحفيين، فقد أظهرت تقارير محلية ودولية تدخلات مباشرة في عمل القضاء، شملت فصل قضاة وانتقال قضايا حساسة من محاكم مستقلة إلى هيئات مقربة من الحكومة.
وتشير منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى أن المجر تراجعت إلى المرتبة الـ85 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، بعد أن كانت ضمن أول 40 دولة قبل عقد، كما رُصدت حالات استخدام لتقنيات التعرف على الوجوه ضد المشاركين في مسيرات فخر بودابست، وفتح تحقيقات جنائية ضد مسؤولين محليين دعموا الفعاليات.
ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2010، بنى فيكتور أوربان نهجه السياسي على خطاب “السيادة الوطنية” ومقاومة ما يسميه “الهيمنة الليبرالية لبروكسل”، لكن هذا الخطاب، بحسب مراقبين، تحول إلى غطاء لسياسات استبدادية تُقيد الحريات وتضعف مؤسسات المحاسبة.
وقد اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش حكومة أوربان بـ”تفكيك سيادة القانون بشكل منهجي” واستخدام أدوات الدولة لإسكات المعارضة، مؤكدة أن “الوقت حان ليتوقف الاتحاد الأوروبي عن المماطلة ويتخذ إجراءات حاسمة دفاعًا عن قيمه التأسيسية”.
المادة السابعة آلية متعثرة
تعد المادة السابعة من معاهدة الاتحاد الأوروبي الآلية الأبرز لمحاسبة الدول الأعضاء التي تنتهك قيم الاتحاد، أطلق البرلمان الأوروبي هذا الإجراء بحق المجر في عام 2018، لكن العملية بقيت متعثرة بسبب غياب الإجماع بين الدول الأعضاء.
وتقتضي المادة في مرحلتها الوقائية موافقة أربعة أخماس الدول الأعضاء لتحديد وجود خطر واضح لانتهاك خطير لقيم الاتحاد، يليها تحديد توصيات زمنية ملزمة للدولة المعنية، وإذا لم تُنفذ التوصيات، يمكن الانتقال إلى المرحلة العقابية التي تسمح بتعليق حقوق التصويت داخل الاتحاد.
غير أن هذه الخطوة لم تُفعّل بعد بحق المجر رغم مرور سبع سنوات على بدء النقاش، ما دفع منظمات حقوقية إلى اتهام بروكسل بالتقاعس عن حماية القيم التي تأسس عليها الاتحاد.
ويواجه الاقتصاد المجري تداعيات ملموسة بسبب الأزمة السياسية والقانونية المستمرة، فقد جمّدت المفوضية الأوروبية نحو 18 مليار يورو من أموال الاتحاد المخصصة لبودابست بسبب مخاوف تتعلق بسيادة القانون وشفافية الإنفاق العام في المجر، كما دعا نواب أوروبيون في مايو الماضي إلى تعليق جميع التمويلات حتى إشعار آخر.
ويؤكد خبراء اقتصاديون أن هذا التجميد يهدد خطط الحكومة في تمويل مشاريع البنية التحتية والبرامج الاجتماعية، خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 9 في المئة عام 2025، وتراجع الاستثمارات الأوروبية المباشرة بنسبة 12 في المئة خلال العام ذاته.
العدالة الدولية على المحك
أثارت خطوة المجر في يونيو الماضي بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية موجة انتقادات واسعة داخل الاتحاد الأوروبي. فالدول الأعضاء ملزمة قانونيًا باحترام معاهدة روما الأساسية، التي تشكل إطار المحكمة الجنائية. واعتبر قضاة المحكمة أن المجر انتهكت التزاماتها الدولية عندما استقبلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب لدى المحكمة، دون تنفيذ مذكرة اعتقاله.
هذا الانسحاب، وفق المفوضية الأوروبية، يمثل “سابقة خطيرة” تهدد الالتزام الأوروبي بالقانون الدولي، وتزيد من عزلة المجر داخل التكتل.
ولم يقتصر النقد على المؤسسات الأوروبية. فقد أصدرت الأمم المتحدة ومنظمات مثل لجنة البندقية التابعة لمجلس أوروبا سلسلة تقارير حذرت فيها من “تراجع متسارع لسيادة القانون في المجر”، مشيرة إلى أن استقلال القضاء وحرية المجتمع المدني والإعلام تتعرض لتهديد هيكلي.
وفي يوليو الماضي، أيدت عشرون دولة من أصل سبع وعشرين داخل الاتحاد الأوروبي إعلانًا مشتركًا دانت فيه حظر بودابست فعاليات مجتمع الميم، معتبرة أنه انتهاك صريح لمعاهدة الحقوق الأساسية للاتحاد، ودعت تلك الدول إلى رد حازم من المفوضية الأوروبية، لكن مجلس الاتحاد لم يترجم هذه الدعوات إلى قرارات ملزمة بعد.
جذور الخلاف
تعود جذور الخلاف بين الاتحاد الأوروبي والمجر إلى العقد الأول من القرن الحالي، حين بدأ حزب “فيدس” الحاكم بتركيز السلطة في يد رئيس الوزراء وتعديل الدستور لتقليص صلاحيات المحكمة الدستورية وتوسيع نفوذ الحكومة على الإعلام والجامعات.
وفي عام 2018، غادرت جامعة أوروبا الوسطى –التي أسسها الملياردير جورج سوروس– بودابست بعد سلسلة من القيود القانونية التي اعتبرتها المفوضية الأوروبية طعنة في قلب حرية التعليم، منذ ذلك الحين، أصبحت المجر نموذجا لما يسميه باحثون “الديمقراطية غير الليبرالية داخل الاتحاد”.
الاجتماع المرتقب لمجلس الاتحاد الأوروبي في الحادي والعشرين من أكتوبر يمثل اختبارًا حاسمًا لقدرة التكتل على حماية قيمه أمام تحديات داخلية متصاعدة. فبينما تؤكد بروكسل التزامها بالدفاع عن سيادة القانون، تخشى بعض العواصم من أن يؤدي اتخاذ إجراءات قاسية ضد المجر إلى مزيد من الانقسام داخل الاتحاد، خاصة في ظل توترات سياسية واقتصادية في دول أوروبا الشرقية.
لكن محللين قانونيين يرون أن التغاضي عن الانتهاكات سيقوض الثقة في النظام الأوروبي ذاته، ويشجع حكومات أخرى على اتخاذ مسار مشابه يهدد تماسك الاتحاد.
يضع استمرار تآكل سيادة القانون في المجر الاتحاد الأوروبي أمام خيار تاريخي بين المبادئ والمصالح، فإما أن يتخذ التكتل خطوات ملموسة تضمن احترام قيمه التأسيسية، أو يواجه خطر تحول الانتهاكات إلى سابقة تُضعف مصداقيته في الداخل والخارج.
وبينما ينتظر الصحفيون والقضاة والحقوقيون في بودابست بقلق ما ستسفر عنه اجتماعات بروكسل، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت أوروبا ستنجح في حماية جوهرها الديمقراطي، أم ستكتفي بالمراقبة بينما تتآكل أسس العدالة التي قامت عليها منذ أكثر من سبعين عامًا.