من الموت إلى الحياة.. أجساد هزيلة تفضح ما خفي وراء جدران السجون الإسرائيلية
من الموت إلى الحياة.. أجساد هزيلة تفضح ما خفي وراء جدران السجون الإسرائيلية
كأنهم خرجوا للتو من باطن الأرض، وجوه شاحبة تنكسر أمام الضوء، أجساد هزيلة تنوء بما حملته من جوع ووجع، عيون متعبة لا تصمد أمام الشمس.
هكذا بدا الأسرى الفلسطينيون الذين تحرروا في صفقة التبادل الأخيرة، بعد شهور وسنوات من العتمة خلف القضبان الإسرائيلية، وبحسب المركز الفلسطيني للإعلام بدا بعضهم كمن شاخ فجأة، كأنّ الزمن نال منهم قسوة تفوق أعمارهم.
لم تكن الكلمات تكفي لوصفهم، ولا لتلخيص ما مرّ بهم. وقفوا أمام عدسات الصحفيين متلعثمين، يبحثون عن لغة تليق بذاكرة السجن، لكنّ الكلمات خانتهم، كما خانهم العالم طويلاً.
أصوات خرجت من العتمة
الأسير المحرر ناجي الجعفراوي، الخارج من ظلام السجن إلى رحابة السماء، لم يجد وجه أخيه الصحفي الشهيد صالح بين مستقبليه، فقد رحل الأخير قبل ساعات من الإفراج عنه.
ناجي الذي عُرف بصوته الندي في تلاوة القرآن وببلاغته في الخطابة، لم يجد وصفاً أصدق من قوله: “لا يصف السجن واصف، فواقع السجن لا يوصف”.
يروي ناجي أنه قضى أكثر من مئة يوم معصوب العينين، مكبل اليدين إلى الخلف، ممنوعاً من الحركة أو دخول الخلاء إلا مرة كل يومين، "كانوا يدوسوننا بأرجلهم كأننا بلا حياة، ومع ذلك كنا نتمسك بالإيمان أن الله لن يضيعنا"، قالها بصوت يختلط فيه الوجع باليقين.
خرج ناجي وهو يدرك أن كثيراً من الأسرى بقوا هناك، يموتون كل يوم ألف مرة في انتظار بصيص حرية.
أجساد تتكلم بالعذاب
"أنا مش كويس.. إلنا سنتين جوعانين" بهذه العبارة بدأ الصحفي المحرر شادي أبو سيدو حديثه، وصوته يخرج من حنجرة أنهكها الصراخ والتعذيب.
قال إنهم استخدموا معه سياسة “تكسير العظام”، كسرت يداه، وتفتت ضلوع صدره، بينما بقي الدم يسيل من عينيه بسبب الضرب المتعمد على رأسه.
وأضاف أن المحققين كانوا يسخرون من مهنته كمصور صحفي: "قال لي أحدهم، سأقلع عينك كما قلعت عين الكاميرا التي كنت تصور بها غزة".
حين زارته المحامية سحر فرنسيس ورأت حاله، قالت إنها ستبلغ مؤسسات حقوق الإنسان، ردّ عليها بمرارة: "لا تخبري حقوق الإنسان، أخبري حقوق الحيوان، قد أجد عندهم رحمة أكثر".
جوع ومرض وإهمال
تتكرر الشهادات لتؤكد أن التجويع كان سياسة ممنهجة. يقول أبو سيدو: "دخلت السجن جائعاً وبقيت جائعاً وخرجت منه جائعاً".
الإهمال الطبي، كما يصفه الأسرى المحررون، لم يكن نتيجة تقصير بل قراراً متعمداً، يهدف إلى كسرهم جسداً وروحاً، بعضهم خرج بأمراض مزمنة، وآخرون فقدوا أطرافهم بسبب غياب العلاج.
يؤكد الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، أن حالة الأسرى الصحية والنفسية مأساوية، بعضهم مبتورو الأطراف، آخرون في غيبوبة أو يعانون فشلاً كلوياً نتيجة التعذيب والحرمان من الدواء، قال الطبيب وهو يصف ما رآه في المستشفى عند استقبال المحررين.
الإبادة البطيئة خلف الجدران
ليست هذه القصص استثناءات، بل جزءاً من نمط واسع من الانتهاكات الممنهجة التي تشهدها السجون الإسرائيلية، منذ السابع من أكتوبر، استُشهد داخل المعتقلات سبعة وسبعون أسيراً فلسطينياً، وفق بيانات منظمات الأسرى، معظمهم قضوا تحت التعذيب أو الإهمال الطبي.
وتوثق تقارير الأمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان مشاهد صادمة من داخل الزنازين: ضرب مبرح، تجريد من الملابس، حرمان من النوم والطعام، إجبار على الوقوف في أوضاع مؤلمة لساعات طويلة، واحتجاز في زنازين مكتظة تفتقر إلى أبسط شروط الإنسانية.
يقول تقرير صادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان إن ما يجري في السجون الإسرائيلية يمثل انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقيات جنيف.
وجع لا ينتهي
الذين خرجوا اليوم، خرجوا بأجسادهم فقط، أما أرواحهم فبقي جزء منها هناك، حيث الجوع والظلام والانتظار، يحملون في عيونهم حكايات لا تروى، وفي أصواتهم وجع كل من ما زال خلف القضبان.
يقول أحد الأسرى المحررين وهو يتكئ على عصاه: "خرجنا من القبور.. لكن إخوتنا ما زالوا هناك في الظلمة ينتظرون يوماً آخر للبعث".
مشهدهم وهم يعانقون الهواء لأول مرة منذ سنوات، لا يشبه إلا معجزة صغيرة وسط هذا الموت الممتد، لكنهم يدركون أن فرحتهم ناقصة، وأن الحرية الحقيقية لم تكتمل بعد ما دام خلف الجدران من ينتظر دوره في الحياة.
الأزمة الإنسانية للأسرى الفلسطينيين
تؤكد مؤسسات الأسرى الفلسطينيين أن نحو 9200 أسير لا يزالون في سجون إسرائيل، بينهم أكثر من 200 طفل و80 امرأة، بينما يخضع المئات منهم للاعتقال الإداري من دون تهمة أو محاكمة.
تُستخدم السجون الإسرائيلية، وفق منظمات حقوقية دولية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، كأداة قمع سياسي ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني، وتشير التقارير إلى أن التعذيب والإهمال الطبي وسوء المعاملة ليست حالات فردية، بل سياسة دولة تُمارس بصورة منظمة.
وتطالب الأمم المتحدة منذ سنوات بتمكين لجان تحقيق دولية من دخول السجون الإسرائيلية وتوثيق الانتهاكات، إلا أن سلطات إسرائيل ترفض ذلك باستمرار، مكتفية بإجراءات داخلية شكلية لا تؤدي إلى محاسبة حقيقية.
وتعتبر قضية الأسرى إحدى أكثر القضايا الإنسانية والسياسية حساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ تعكس، كما تقول المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان ميشيل باشليه، جوهر الظلم القائم على نزع الإنسانية عن شعب بأكمله.