الحق في الأمان الرقمي.. أوروبا تلاحق المنصات دفاعاً عن طفولة بلا خوارزميات
الحق في الأمان الرقمي.. أوروبا تلاحق المنصات دفاعاً عن طفولة بلا خوارزميات
تتحرك مؤسسات الاتحاد الأوروبي بخطوات متسارعة لوضع حدٍّ لما تعتبره "إخفاقًا متكررًا" من قِبَل شركات التكنولوجيا في حماية الأطفال على الإنترنت.
تكشف صحيفة "بوليتيكو" أن أعضاء البرلمان الأوروبي يسعون إلى تحميل كبار المسؤولين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا المسؤولية الشخصية عن أي تقصير في حماية القاصرين، في إطار اقتراح جديد يستهدف المنصات الرقمية الكبرى.
يأتي هذا التحرك وسط تنامي القلق الأوروبي بشأن الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية، وخاصة تلك التي توصف بأنها "شديدة الإدمان"، إلى جانب الانتشار الواسع للمحتوى العنيف الذي يتعرض له الأطفال.
ويُظهر المقترح أن البرلمان الأوروبي لم يعد يكتفي بتغريم الشركات، بل يسعى إلى مبدأ المساءلة الفردية، في تحول لافت من "المسؤولية المؤسسية" إلى "المسؤولية الشخصية" لرؤساء الشركات ومديريها التنفيذيين.
المحاسبة على الانتهاكات
توضح النائبة المجرية دورا دافيد، وهي موظفة سابقة في شركة ميتا، أن مشروع القرار يهدف إلى جعل كبار المديرين التنفيذيين مثل مارك زوكربيرغ وغيرهم خاضعين للمحاسبة في حال وقوع انتهاكات متكررة أو خطيرة لحقوق الأطفال الرقمية.
وفي المقابل، تؤكد النائبة الدنماركية كريستل شالديموز، التي تقود إعداد التقرير البرلماني، أن الموافقة على الصيغة النهائية تمثل خطوة حاسمة نحو حماية القاصرين، لكنها تُقرّ بصعوبة تمريرها سياسيًا.
ويُلزم المقترح المنصات التي يتجاوز عدد مستخدميها 45 مليونًا في الاتحاد الأوروبي بالامتثال لإجراءات صارمة تتعلق بالشفافية ومنع التضليل والمحتوى غير القانوني.
وتشير "بوليتيكو" إلى أن الشركات المخالفة قد تواجه غرامات تصل إلى 6% من إيراداتها العالمية السنوية، في حال ثبوت انتهاكها للقانون الأوروبي الخاص بالخدمات الرقمية (DSA).
أدوات للتحقق من السن
تُجري المفوضية الأوروبية في الوقت ذاته اختبارات تجريبية لتقنيات التحقق من السنّ بهدف دعم التشريعات الجديدة، وبحسب ما نقلته صحيفة "ذا فيرج" الأمريكية المتخصصة في شؤون التكنولوجيا، بدأ الاتحاد الأوروبي تجربةً لتطبيق جديد للتحقق من العمر في خمس دول: الدنمارك واليونان وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا، لتسهيل امتثال المنصات الإلكترونية لقواعد حماية القاصرين.
تُصر مسؤولة سياسة التكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي، هينا فيركونين، على أن "ضمان سلامة الأطفال والشباب على الإنترنت أمر بالغ الأهمية لهذه المفوضية"، مؤكدة أن التطبيق الجديد خطوة كبيرة نحو تعزيز الأمان الرقمي للأطفال.
يُتيح هذا التطبيق للمستخدمين إثبات تجاوزهم سن 18 عامًا دون الكشف عن بياناتهم الشخصية، ويُعدّ بذلك أداةً لتقليل المخاطر المرتبطة بضعف الرقابة الرقمية، خصوصًا في المواقع التي يُحتمل أن تُعرّض الأطفال لمحتوى غير مناسب.
وتؤكد المفوضية أن هذا التطبيق سيُطوّر بالتعاون مع الدول الأعضاء والمنصات والمستخدمين النهائيين، على أن يُعتمد لاحقًا ضمن محفظة الهوية الرقمية الأوروبية التي يُتوقع إطلاقها عام 2026، لتُمكّن المواطنين من إثبات هويتهم الرقمية بأمان عند استخدام الخدمات الإلكترونية.
وتشير "ذا فيرج" إلى أن هذه المبادرة تُعدّ استجابة مباشرة للتحقيقات الأوروبية الجارية بشأن المنصات الكبرى المتهمة بعدم اتخاذ تدابير فعالة للتحقق من عمر المستخدمين.
وتهدف المفوضية من خلالها إلى ضمان "النمو الجسدي والعقلي والأخلاقي الصحي" للأطفال، وفقًا لمبادئ قانون الخصوصية الرقمية الأوروبي.
حق الطفل في الحماية
يفتح الاتحاد الأوروبي جبهة تحقيقات واسعة ضد منصات إلكترونية كبرى يُشتبه في انتهاكها لقواعد حماية الأطفال، حيث ذكرت "أسوشيتد برس" أن المفوضية الأوروبية أعلنت رسميًا بدء إجراءات قانونية ضد أربع منصات رقمية ضخمة (ذات محتوى إباحي) بموجب قانون السلامة الرقمية الأوروبي (DSA)، للاشتباه في فشلها في منع القاصرين من الوصول إلى محتويات للبالغين.
توضح المفوضية أن هذه المنصات لم تعتمد تدابير فعالة للتحقق من السنّ، واكتفت بأنظمة بدائية لا تمنع من هم دون الثامنة عشرة من مشاهدة مواد غير مخصصة لهم.
ويُعدّ هذا الإخفاق –بحسب المفوضية– انتهاكًا مباشرًا لبنود حماية الطفل المنصوص عليها في القانون، الذي يُلزم المنصات بتأمين أعلى معايير السلامة الرقمية.
صرّحت نائبة الرئيس التنفيذي للمفوضية لشؤون سيادة التكنولوجيا والأمن والديمقراطية، هينا فيركونين، بأن "الفضاء الإلكتروني يجب أن يكون بيئة آمنة للأطفال للتعلم والتواصل، وحمايتهم أولوية لا تقبل التهاون".
وأضافت أن التحقيق الجاري يُركّز على غياب تقييمات المخاطر وإجراءات التخفيف التي تُلزم المنصات بتحديد التهديدات المحتملة على الصحة النفسية والجسدية للقاصرين.
وتشير "أسوشيتد برس" إلى أن هذه المنصات تُصنّف ضمن "المنصات الإلكترونية الضخمة جدًا" الخاضعة لأعلى مستوى من التدقيق الأوروبي، ما يعني أن أي خرق من جانبها قد يؤدي إلى غرامات تصل إلى 6% من إجمالي المبيعات السنوية.
ورغم حذف إحداها من قائمة المنصات الضخمة مؤخرًا، فقد أكدت المفوضية استمرار التحقيقات في إجراءاتها الخاصة بالتحقق من السن، ما يُظهر إصرار الاتحاد على محاسبة المنصات بغضّ النظر عن حجمها أو موقعها.
جدية غير مسبوقة
من جانبها، كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن المفوضية الأوروبية أطلقت تحقيقًا رسميًا في المنصات المتهمة بعد أن وجدت أنظمة التحقق الحالية غير فعالة.
وتشير الصحيفة إلى أن المفوضية رصدت اعتماد تلك المنصات على إقرارات ذاتية بنقرة واحدة للتحقق من السنّ، معتبرةً ذلك إجراءً شكليًا لا يوفّر الحماية المطلوبة للأطفال.
وينقل تقرير "الغارديان" عن مسؤول في الاتحاد الأوروبي قوله: "اليوم يومٌ مُبشر لحماية القُصّر على الإنترنت في الاتحاد الأوروبي، فمع إجراءات الإنفاذ ضد هذه المنصات، نُظهر جديتنا في حماية الأطفال بموجب قانون حماية البيانات الرقمية".
يُبرز هذا التصريح حجم التحول في نهج المفوضية، إذ لم تعد تكتفي بالمراقبة أو الإنذارات، بل تتجه نحو المساءلة الفعلية وتطبيق الغرامات، في سابقة داخل التشريعات الأوروبية الرقمية.
تؤكد المفوضية أنها منفتحة على قبول التزامات من الشركات المعنية إذا قدّمت خططًا عملية للتحقق من السنّ تتوافق مع المعايير الأوروبية.
غير أن الصحيفة تُشير إلى أن غياب جداول زمنية واضحة لإنهاء التحقيقات يثير قلقًا حول فعالية تطبيق القانون وسرعة الاستجابة في حماية الأطفال.
وتلفت "الغارديان" إلى أن التصنيف الجديد لبعض المنصات لا يُلغي التزاماتها المتعلقة بحماية القاصرين، وأن أي إخلال بهذه الالتزامات سيظل خاضعًا للرقابة والتنفيذ من جانب الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء.
حماية القاصر كحق إنساني
يُعيد هذا المسار الأوروبي تعريف الحق في الأمان الرقمي كأحد الحقوق الأساسية للطفل في العصر الحديث، فبينما يركز القانون الدولي على حماية الطفل من الاستغلال أو الإهمال، يوسّع الاتحاد الأوروبي المفهوم ليشمل الوقاية من المخاطر الرقمية: من التنمّر الإلكتروني إلى الإدمان النفسي للمحتوى، وصولًا إلى حماية الخصوصية والبيانات الشخصية.
وتُبرز هذه الخطوات، كما ورد في "بوليتيكو" و"ذا فيرج"، تطورًا لافتًا في نهج العدالة الرقمية، الذي لا يكتفي بتحميل المنصات المسؤولية القانونية، بل يمتد ليشمل واجب الحكومات في توفير بيئة رقمية آمنة ومتوازنة للأطفال.
وتُعدّ هذه التحركات تجسيدًا لمبدأ أساسي في حقوق الإنسان: "حماية الأضعف أولًا"، في مواجهة سوق رقمية لا تعترف بالعمر ولا تعرف حدودًا.
وتُظهر التحقيقات والتشريعات الأوروبية تصميمًا واضحًا على أن تصبح أوروبا نموذجًا عالميًا في حماية الطفل الرقمي، فبينما يتذرع البعض بأن التشريعات الجديدة قد تُقيّد حرية الإنترنت، تؤكد المفوضية أن الحرية الرقمية لا تكتمل دون أمانٍ يحمي الأطفال من الأذى النفسي والمحتوى العنيف.