قمع متواصل للإعلام.. طالبان تطفئ شاشة "شمشاد" وتعمّق عزل الإعلام الأفغاني

قمع متواصل للإعلام.. طالبان تطفئ شاشة "شمشاد" وتعمّق عزل الإعلام الأفغاني
قناة "شمشاد" التلفزيونية في أفغانستان

في خطوة جديدة تؤكد تدهور واقع الحريات في أفغانستان، أوقفت حركة طالبان بث قناة "شمشاد" التلفزيونية، إحدى أبرز وسائل الإعلام المحلية، في قرار اعتبره الصحفيون "ضربة موجعة لما تبقّى من حرية التعبير" في البلاد.

وبحسب ما أفادت به مصادر متقاطعة لوسائل إعلام محلية، فإن الاستخبارات التابعة لطالبان اقتحمت مساء الجمعة 17 أكتوبر مكاتب القناة في كابل، وأمرت بوقف البث "بناءً على تعليمات مباشرة من زعيم الحركة، الملا هبة الله أخوندزاده"، دون تقديم تبرير رسمي أو تحديد مدة الإيقاف.

وأكدت مصادر في القناة أن الخطوة جاءت عقب بث برامج "لا تتماشى مع سياسات حركة طالبان" أو تحتوي على محتوى "انتقادي"، وهو ما اعتبره العاملون محاولة لترهيب وسائل الإعلام الأخرى وإرغامها على التزام الخط الرسمي للحركة.

شمشاد.. منبر شعبي

منذ تأسيسها عام 2006، لعبت قناة شمشاد دوراً محورياً في المشهد الإعلامي الأفغاني، إذ تميزت ببثها باللغتين البشتونية والدرية، وبتغطيتها الواسعة للشؤون المحلية، ولا سيما في المناطق الريفية التي نادراً ما تصلها الأصوات المستقلة، كما اشتهرت بإنتاجها لبرامج اجتماعية وثقافية موجهة للشباب والنساء، ما جعلها من أكثر القنوات مشاهدة في البلاد.

لكن هذا الحضور القوي جعلها في مرمى استهداف حركة طالبان منذ عودتها إلى السلطة في أغسطس 2021، حيث تلقت القناة أكثر من 20 تحذيراً شفهياً خلال العامين الماضيين، وفق ما ذكره مركز الصحفيين الأفغان الذي أكد أن "شمشاد كانت واحدة من آخر المنابر التي ما زالت تحاول ممارسة مهنية إعلامية حقيقية رغم التهديدات المتواصلة".

إغلاق قناة "شمشاد" ليس حدثاً معزولاً، فمنذ عودة طالبان إلى الحكم، وثّقت منظمات دولية أكثر من 230 انتهاكاً بحق الصحفيين ووسائل الإعلام، تشمل الاعتقالات التعسفية، والضرب، ومصادرة المعدات، ومنع البث المباشر.

ووفق تقرير منظمة دعم الإعلام في أفغانستان الصادر في سبتمبر 2025، فإن أكثر من 50% من المؤسسات الإعلامية التي كانت تعمل قبل عام 2021 توقفت عن النشاط تماماً، في حين خسر آلاف الصحفيين وظائفهم أو اضطروا لمغادرة البلاد خوفاً من الملاحقة.

وأشارت المنظمة إلى أن القرارات الصادرة عن وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووزارة الإعلام والثقافة التابعة لطالبان فرضت قيوداً صارمة على المحتوى، وحظرت البرامج التي تتناول قضايا المرأة أو الفساد أو أداء الحكومة، وهو ما جعل من الإعلام الرسمي الصوت الوحيد المسموح له بالظهور.

ردود فعل محلية ودولية

أثار قرار إغلاق شمشاد ردود فعل واسعة في الأوساط الإعلامية والحقوقية، فقد أدانت منظمة دعم الإعلام في أفغانستان الخطوة بشدة، معتبرة أنها دليل جديد على أن طالبان لا تتسامح مع أي رأي مختلف أو تغطية مستقلة.

وقالت المنظمة في بيان: "منع قناة شمشاد من البث هو اعتداء مباشر على حق الجمهور في المعرفة، وإشارة خطيرة إلى أن طالبان تسعى إلى احتكار الرواية الإعلامية بالكامل".

كما عبرت الشبكة الأفغانية للصحفيين المستقلين عن قلقها العميق، مؤكدة أن القرار سيؤدي إلى مزيد من الرقابة الذاتية والخوف بين الصحفيين، وأشارت إلى أن عدداً من العاملين في شمشاد تلقوا استدعاءات من سلطات الأمن للتحقيق معهم حول طبيعة برامجهم السابقة.

من جانبها، دعت منظمة العفو الدولية المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل، قائلة إن “السكوت الدولي على القمع الإعلامي في أفغانستان يشجع طالبان على المضي في سحق ما تبقى من فضاء حر”.

وأكدت المنظمة أن استهداف الإعلام المستقل لا يمكن تبريره بأي ذريعة أمنية أو دينية، وأن على الأمم المتحدة فرض آليات رقابة ومساءلة حقيقية على سلوك طالبان تجاه الحريات العامة.

كما حثّ الاتحاد الدولي للصحفيين مجلس الأمن على إدراج الانتهاكات ضد الإعلاميين الأفغان ضمن جدول أعماله، مشيراً إلى أن “أفغانستان اليوم من أخطر دول العالم ممارسةً للصحافة”.

حق الوصول إلى المعلومات

من منظور القانون الدولي، يشكل قرار طالبان انتهاكاً واضحاً للمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اللذين يضمنان حرية التعبير والحق في تلقي ونشر المعلومات دون تدخل.

ويرى خبراء قانونيون أن ما يجري في أفغانستان يرقى إلى "إلغاء فعلي لحرية الصحافة"، ما يخالف الالتزامات التي قطعتها طالبان في اتفاق الدوحة عام 2020، حين تعهدت بعدم تقييد حرية الإعلام مقابل الاعتراف الدولي.

يقول سيد مراد شيرزاي، الباحث في شؤون الإعلام بجامعة هرات: "بإغلاق شمشاد تكون طالبان قد وجهت رسالة نهائية لكل المؤسسات الإعلامية: إما أن تنقلوا صوتنا فقط، أو تصمتوا إلى الأبد".

ويضيف أن هذا القرار "ليس سياسياً فحسب، بل هو وسيلة لإعادة تشكيل الوعي العام وفق رؤية أحادية لا تسمح بطرح أي أسئلة".

تأثيرات إنسانية ومجتمعية

إغلاق شمشاد وغيرها من وسائل الإعلام المستقلة لا ينعكس فقط على حرية التعبير، بل يمتد إلى الجوانب الإنسانية للحياة اليومية في بلد يعاني أزمات معقدة.

فالقناة كانت، بحسب العاملين فيها، تبث برامج توعوية حول التعليم والصحة العامة وحقوق المرأة، إلى جانب نشرات أخبار تسلط الضوء على معاناة النازحين والفقراء، ومع توقفها، تفقد شرائح واسعة من المجتمع نافذتها الوحيدة على المعلومات.

ويحذر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن "تقييد الإعلام يفاقم الأزمة الإنسانية في أفغانستان"، حيث يعتمد ملايين المواطنين على وسائل الإعلام المحلية للحصول على إرشادات حول الأمن الغذائي والرعاية الصحية ومخاطر الكوارث الطبيعية.

كما أكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أن “إغلاق المنابر الإعلامية يهدد سلامة المجتمع ويقوض التنمية المستدامة”، مشيرة إلى أن الإعلام الحر ليس ترفاً، بل ضرورة لبقاء المجتمعات على قيد الحياة.

من التحرير إلى التكميم

بعد سقوط حكومة أشرف غني عام 2021، تعهدت طالبان في تصريحاتها الأولى باحترام حرية الإعلام "وفق أحكام الشريعة الإسلامية"، لكن سرعان ما تحولت هذه الوعود إلى قيود متصاعدة.

ففي ديسمبر 2022، حُظرت المذيعات من الظهور على الهواء دون تغطية الوجه، وفي مطلع 2023 تم حظر برامج موسيقية وترفيهية، تلاها قرار بمنع البث المباشر للصور في 20 ولاية، كما أغلقت طالبان مؤسسات إعلامية بارزة مثل "طلوع نيوز" و"خورشيد"، وأجبرت العشرات من الصحفيين على توقيع تعهدات بعدم بث تقارير تنتقد الحركة.

ووفق تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2024، تراجعت أفغانستان إلى المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي، لتقترب من دول مثل كوريا الشمالية وإريتريا.

على الرغم من الإدانات المتكررة، يرى ناشطون أن ردود المجتمع الدولي ما تزال دون المستوى المطلوب، فالدول الغربية المنشغلة بأزماتها الداخلية اكتفت بتصريحات شجب عامة، في حين يستمر مكتب الأمم المتحدة في كابل في التفاوض مع طالبان دون اشتراطات صارمة تتعلق بحرية التعبير.

ويقول عبد القيوم آرياني، المدير السابق لاتحاد الصحفيين الأفغان: العالم يتعامل مع طالبان بوصفها أمراً واقعاً، وينسى أن الشعب الأفغاني هو الذي يدفع الثمن، إغلاق قناة شمشاد يعني إسكات ملايين الأصوات التي لم يعد لها منبر.

إلى أين يتجه الإعلام؟

يخشى مراقبون أن يكون إغلاق شمشاد مقدمة لمرحلة جديدة من "الرقابة الكاملة"، حيث يجري إحلال الإعلام الرسمي مكان المنابر المستقلة، لتتحول وسائل الإعلام إلى أدوات دعاية للحركة.

وتشير تقارير داخلية إلى أن طالبان تعكف على إنشاء هيئة موحدة للبث والإعلام تابعة لوزارة الثقافة، تشرف على جميع المحتويات قبل نشرها، ما يعني عملياً نهاية الإعلام المستقل في البلاد.

ورغم هذا الواقع القاتم، يحاول بعض الصحفيين العمل في الخفاء أو عبر الإنترنت من خارج البلاد، لتوصيل الأخبار إلى الداخل، إلا أن ضعف الاتصالات والمراقبة المشددة يجعلان المهمة شبه مستحيلة.

يبدو أن إغلاق قناة شمشاد ليس مجرد قرار إداري، بل حلقة في سلسلة طويلة من الإجراءات التي تستهدف خنق ما تبقى من فضاء حر في أفغانستان، فبينما تبرر طالبان قراراتها باسم "حماية القيم"، يرى الحقوقيون أن البلاد تنزلق نحو صمت إعلامي تام، وأن فقدان الصحافة المستقلة يعني حرمان ملايين الأفغان من حقهم في الحقيقة والمعرفة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية