العدالة تبدأ بالتطهير المؤسسي.. تقرير حقوقي يكشف مخاطر بقاء المجرمين في سوريا

العدالة تبدأ بالتطهير المؤسسي.. تقرير حقوقي يكشف مخاطر بقاء المجرمين في سوريا
سوريا

أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريراً تحليلياً جديداً تحت عنوان "الضرورة القانونية والأخلاقية لإقصاء المجرمين عن مؤسسات الدولة خلال المرحلة الانتقالية في سوريا"، تزامناً مع ملامح تغيير سياسي تتسارع في البلاد منذ سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، حيث ينطلق التقرير من أن الإصلاح المؤسسي ليس خياراً زخرفياً بل حجر الزاوية في مسار العدالة الانتقالية، وأن بقاء المتورطين في الانتهاكات داخل الجهاز الحكومي يقوّض أي عملية إصلاح ويهدد الاستقرار بالمضي نحو دوامة جديدة من القسوة والإفلات من العقاب. 

يُؤكد التقرير، وفق ما ورد على موقع الشبكة الرسمي، أن الإقصاء الإداري للجهات التي تورطت في الانتهاكات الجسيمة هو تجسيد لمبدأ عدم التكرار الذي يُعد من المبادئ الأساسية في حقوق الإنسان، وليس عملاً انتقامياً، بل عملًا ضروريًا قانونياً وأخلاقياً لتعزيز الثقة بين المواطن والدولة الجديدة المزمع تأسيسها.

من القمع إلى العنف الممنهج

يرصد التقرير مستويات التواطؤ المؤسسي التي وفّرت البيئة المواتية لجرائم النظام، بدءًا من القادة الأمنيين إلى القضاة الذين شرّعوا الممارسات القمعية، والوظائف الإدارية والفنية التي وفّرت الغطاء الإعلامي والتقني للفعل السلطوي، كما وثقت الشبكة أن عدد الضحايا المدنيين في سوريا لا يقلّ عن 202,021 قتيلًا، وسط نحو 160,123 حالة اعتقال تعسفي أو اختفاء قسري، وأكثر من 45,031 وفاة تحت التعذيب، بالإضافة إلى 217 هجوماً كيميائياً و254 هجوماً بذخائر عنقودية، ونحو 81,954 برميلاً متفجراً، ونزوح داخلي وخارجي شمل أكثر من 13.8 مليون شخص. 

كما حدد التقرير أن نحو 16,200 شخص مشاركون في الانتهاكات، من قادة أمنيين وعسكريين وقضاة وعناصر إعلامية واقتصادية وموظفين حكوميين، ويُشير التقرير إلى أن هذه الأرقام ليست مجرد إدانة فردية، بل دليلا على أن الانتهاك كان عملية منسقة، عبر أذرع الدولة المتعددة.

الشرعية والتجارب المقارنة

يعرض التقرير الأساس القانوني الدولي لدعم الإقصاء المؤسسي، مستشهداً بأحكام من المحاكم الأوروبية وأمريكية تؤكد أن التطهير المؤسسي مشروع إذا تم تحت معايير قانونية وضمانات عدالة، شريطة ألّا يُستخدم بشكل تعسفي. 

إلى ذلك، تتقاطع رؤية الشبكة مع توصيات المنظمات الدولية التي تدعم العدالة الانتقالية في سوريا، مثل المبادرة الدولية للعدالة الانتقالية (ICTJ) التي ترى أن الإصلاح المؤسسي ضروري لضمان أن المؤسسات لا تستنسخ ممارسات الماضي. 

ومع تشكيل السلطات السورية الجديدة هيئة وطنية للعدالة الانتقالية وهيئة للمفقودين في مايو 2025، ثار الجدل حول مدى شمول صلاحياتها فبعض المراقبين، مثل "Physicians for Human Rights" تحذّر من أن اللجنة قد تقتصر على تعاملها مع انتهاكات النظام السابق فقط، متجاهلة انتهاكات أخرى من أطراف النزاع، مما يقوّض مبدأ الانصاف والمساواة في الوصول إلى العدالة.

كما لفت تقرير أكاديمي إلى أن تفصيل صلاحيات المفوضيات في سوريا قد يترك ضحايا جهات المعارضة أو الجماعات المسلحة خارج نطاق الحماية إذا لم يُدمجهم التصميم المؤسسي للمحاسبة.

المشهد القضائي السوري

مع تشكّل الحكومة الانتقالية، بدأت بعض الخطوات القضائية، فقد تم تفعيل المحاكم الجنائية التي توقفت لعدة أشهر بعد سقوط النظام في سوريا، وأعلنت وزارة العدل أن هيئة الملاحقات الجنائية تتجه إلى تقديم مذكرات اعتقال ضد مسؤولين سابقين، لكن مراقبين يرون أن هذه الإجراءات لا ترقى بعد إلى ضمانات المحاكمة العادلة ولا تملك الشفافية الكافية حتى الآن. 

في السياق التنظيمي، تم تغيير تسمية جهاز الأمن الجنائي ليُعرف بإدارة المباحث الجنائية في مايو 2025، مع وعود بإصلاح المؤسسات الأمنية وتطهيرها من العناصر المنخرطة في القمع. 

وإلى جانب تلك التغييرات، واجهت المفوضيات الانتقالية انتقادات حول محدودية نطاقها، حيث أصدرت مفوضية العدالة الانتقالية السورية مرسومًا يُركز على جرائم النظام السابق فقط، ما يثير مخاوف من استثناء ضحايا غير النظام من العدالة وقد أعرب حقوقيون عن أن هذا التحديد قد يُضعف مصداقية العملية برمتها.

حقوق الضحايا وثقة الشعب

يُعتبر بقاء كبار مرتكبي الانتهاكات داخل المؤسسات تهديدًا مباشرًا لحقوق الضحايا وكرامتهم، فكل يوم تُبقي فيه السلطة التنفيذية أو القضائية على أشخاص شاركوا في القمع يُعد إهانة للضحايا ويُرسخ ثقافة الإفلات من العقاب.

منظمات مثل "الأمناء الأمميون" ومنظمات أممية طالبت الدولة السورية الجديدة باتخاذ إجراءات فورية لإظهار التزامها بالعدالة والشفافية، ودعت منظمات حقوق الإنسان مثل العفو الدولية الحكومة إلى إعطاء الأولوية لخطوات حقيقية نحو الحقيقة؛ العدالة والتعويضات لجميع الضحايا، وضغطت على ألّا تكون العدالة الانتقالية ذريعة لتقسيم حسابات سياسية. 

كما أن المجتمع المدني السوري، داخل البلاد وفي الشتات، يؤكد أن إشراك ضحايا الانتهاكات في صياغة خارطة الطريق ضروري لضمان شرعية العملية، ووفق ما ذكرته جهات مدنية فإن الثقة المفقودة لا تُستعاد إلا بمشاركة حقيقية وشفافية في كل المراحل، وهو ما حذّر التقرير من تجاوزه أو تجاوزه بالمسار الأحادي. 

من زاوية حقوقية دولية، تُعد المبادئ التي ترعاها الأمم المتحدة في العدالة الانتقالية جزءاً من الالتزامات الدولية التي وقّعتها سوريا، ولا سيما المفاهيم المتعلقة بمحاكمة الجناة، التعويض وإصلاح المؤسسات، وتعكس الدعوات إلى التطهير المؤسسي التزام هذه المبادئ في سياق إعادة بناء الدولة.

كيف يمكن تنفيذ ما ورد

التقرير يقترح إطارًا تدريجيًا للتطهير الإداري يُقسّم المتورطين إلى ثلاث فئات، من القادة الكبار إلى من شاركوا بطرق أقل مباشرة، مع آلية مراجعة فردية وإمكانية الاستئناف، تمييزًا بين المساءلة الجنائية والتدقيق الإداري، وتتمثل الفكرة في أن يعاد بناء الدولة من الداخل، لا بإقصاء جماعي بلا ضوابط، بل بموازين قانونية تضمن إنصافاً فعالًا. 

لكن التحديات عديدة: أولها ضعف الجهاز القضائي والبنى القانونية التي انهارت تحت النظام السابق، ما يضع عبئًا على التنفيذ، وثانيًا، إمكانية التداخل بين السلطات التنفيذية والقضائية قد تُفرغ الإجراءات من مضمونها إن لم تُحدد صلاحيات المحاسبة والتدقيق بوضوح، وثالثًا، وجود ضغوط سياسية داخلية وإقليمية قد تضعف الإرادة في تنفيذ ما يُقرّ في الورق.

كما أن تنفيذ الإقصاء الإداري يتطلب قاعدة بيانات دقيقة وموثقة، وقد استند التقرير إلى قاعدة بيانات الشبكة السورية، التي سجلت آلاف الأسماء المرتبطة، وهي مورد يُمكن للدولة استخدامه بحذر مع ضمان حقوق الدفاع والاستئناف.

يُعد تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان خطوة محورية في النقاش العام حول العدالة الانتقالية في سوريا، إنه يرفع صوت الضحايا ويضع الإصلاح المؤسسي كشرط لا مراء فيه لبناء الدولة الجديدة، ليس كإجراء تجميلي، بل ضرورة قانونية وأخلاقية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية