تكميم أصوات.. 80 منظمة دولية ترفض العقوبات الأمريكية على 3 منظمات حقوقية فلسطينية

تكميم أصوات.. 80 منظمة دولية ترفض العقوبات الأمريكية على 3 منظمات حقوقية فلسطينية
احتجاجات داعمة للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة- أرشيف

تشهد الأوساط الحقوقية الدولية استمرار ردود الفعل وتصاعد الاستنكار والتنديد على قرار الحكومة الأمريكية الصادر في سبتمبر الماضي فرض عقوبات بموجب الأمر التنفيذي (EO 14203) على ثلاث من أبرز المنظمات الفلسطينية العاملة في مجال حقوق الإنسان، وهي: مؤسسة الحق– القانون في خدمة الإنسان، مركز الميزان لحقوق الإنسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.

وجاء القرار، بحسب وزارة الخزانة الأمريكية، بدعوى تعاون هذه المنظمات مع المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقات تتعلق بجرائم حرب مزعومة ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة.

ويأتي هذا الإجراء في لحظة حساسة تشهد فيها الأراضي الفلسطينية واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العقود الأخيرة، وسط تزايد الدعوات الدولية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال العمليات العسكرية في غزة، لكنّ العقوبات الأمريكية أثارت جدلاً واسعًا حول ما إذا كانت واشنطن تستخدم أدواتها القانونية لعرقلة العدالة الدولية ومنع المساءلة عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفق بيان نشرته اليوم الثلاثاء شبكة "منّا لحقوق الإنسان" غير الحكومية من جنيف.

اتهامات بتقويض العدالة

وفقًا لبيان مشترك صادر عن ثمانين منظمة مدنية وحقوقية أمريكية ودولية، من بينها هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية– فرع الولايات المتحدة، والمجلس الأمريكي لليهودية، والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU)، فإن هذه العقوبات تمثل سابقة خطيرة تهدد بنية المجتمع المدني الفلسطيني، وتقوّض قدرة المنظمات الحقوقية على توثيق الانتهاكات أو التعاون مع آليات العدالة الدولية.

وأكد البيان أن العقوبات الأمريكية يشكل انتهاكًا مباشرًا لمبادئ القانون الدولي، ويمثل محاولة لتكميم أصوات الضحايا، ومنع الشهود والخبراء من تقديم الأدلة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأشار الموقعون إلى أن القرار يأتي ضمن نمط متكرر من التدابير الانتقامية التي سبق أن استخدمتها الولايات المتحدة ضد موظفي المحكمة نفسها عام 2020، عندما فرضت إدارة الرئيس دونالد ترامب عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا بسبب تحقيقها في جرائم محتملة في أفغانستان وفلسطين.

ردود فعل أممية

المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، دعا في بيان رسمي إلى سحب هذه العقوبات فورًا، معتبرًا أنها تمثل تهديدًا خطيرًا لاستقلال المجتمع المدني، وتقويضًا للجهود الدولية الرامية لتحقيق العدالة والمساءلة، وأكد تورك أن استهداف المنظمات التي تعمل مع المحكمة الجنائية الدولية لا يخدم سوى تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب.

وحذر خبراء أمميون من أن العقوبات الأمريكية قد تخلق تأثيرًا رادعًا عالميًا ضد منظمات المجتمع المدني التي تتعاون مع الهيئات القضائية الدولية، وقالت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، إن القرار الأمريكي يعكس استخدامًا مسيّسًا للأدوات الاقتصادية من أجل معاقبة من يسعون إلى إنفاذ القانون الدولي، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى العدالة أكثر من أي وقت مضى.

تداعيات على المجتمع المدني

المنظمات الثلاث المستهدفة بالعقوبات تعدّ من أهم الجهات الحقوقية العاملة في الأراضي الفلسطينية منذ عقود، إذ تأسست مؤسسة الحق عام 1979 وتُعد من أوائل المؤسسات الحقوقية العربية التي وثّقت الجرائم الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية. أما مركز الميزان، الذي يعمل انطلاقًا من قطاع غزة منذ العام 1991، فيُعنى بالدفاع عن حقوق المدنيين، لا سيما ضحايا الحصار والعمليات العسكرية، في حين يُعتبر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان مرجعًا أساسياً في توثيق الانتهاكات وتقديم المذكرات القانونية للمحكمة الجنائية الدولية.

وبحسب تقارير هذه المؤسسات، فإن العقوبات ستؤدي إلى تجميد حساباتها البنكية وتعليق تعاملها مع الجهات المانحة الدولية، ما يهدد استمرارية برامجها القانونية والإنسانية، ويعرقل جهودها في إعداد ملفات القضايا المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن الهجمات على المدنيين والبنية التحتية في غزة خلال الحرب الأخيرة.

برّرت وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات بأنها تستند إلى الأمر التنفيذي 14203، الذي يتيح للحكومة الأمريكية استهداف الكيانات أو الأفراد الذين يُعتبر أنهم يساهمون في نشاطات تقوّض سياسة الولايات المتحدة الخارجية أو أمنها القومي. وأوضحت الوزارة أن المنظمات الفلسطينية الثلاث تعمل بتنسيق مباشر مع جهات معادية للمصالح الأمريكية، وتروج لروايات أحادية تسعى لتجريم إسرائيل.

ويرى محللون قانونيون أن استخدام هذا الإطار التنفيذي ضد منظمات حقوقية غير حكومية يمثل توسعًا خطيرًا في نطاق العقوبات الاقتصادية، ويثير تساؤلات حول مدى توافقه مع التزامات الولايات المتحدة بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن حرية التنظيم والتعبير والتعاون مع الهيئات الدولية.

انتقادات داخل الولايات المتحدة

الجدل حول القرار لم يقتصر على الساحة الدولية، بل امتد إلى الداخل الأمريكي، حيث وصفت عشرات المنظمات المدنية القرار بأنه ضربة قاسية لسمعة الولايات المتحدة كدولة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وقالت منظمة هيومن رايتس فيرست في بيانها إن الولايات المتحدة تعاقب المدافعين عن حقوق الإنسان لأنهم سعوا لتحقيق العدالة من خلال المسارات القانونية التي أقرتها الأمم المتحدة.

كما عبّرت منظمة صوت اليهود من أجل السلام عن رفضها للقرار، مؤكدة أن معاداة السامية لا يمكن أن تُستخدم ذريعة لإسكات الانتقادات الموجهة إلى سياسات إسرائيل وأشارت إلى أن “محاولة ربط التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية بمعاداة السامية أمر خطير ويقوّض الجهود العالمية لمواجهة التمييز فعلاً".

ويخشى مراقبون أن يؤدي هذا القرار إلى تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية نفسها، خاصة أن التحقيق في الأراضي الفلسطينية يحظى بتفويض رسمي من المحكمة منذ مارس 2021، ويغطي جميع الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف خلال النزاعات منذ عام 2014.

ويرى خبراء أن استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية على الجهات المتعاونة مع المحكمة يضعف قدرتها على جمع الأدلة وحماية الشهود، ما قد يؤدي عمليًا إلى تعطيل العدالة في القضايا المتعلقة بفلسطين، كما أنه يبعث رسالة سلبية إلى الدول والمنظمات التي تشارك في عمليات تقصي الحقائق في مناطق نزاع أخرى، مثل السودان وأوكرانيا وميانمار.

عقوبات ضد المحكمة الدولية

العلاقة بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية كانت متوترة منذ تأسيس الأخيرة عام 2002، إذ لم تصادق واشنطن على نظام روما الأساسي، وتحتفظ لنفسها بحق رفض أي تحقيق يستهدف مواطنيها أو حلفاءها.

وفي السنوات الأخيرة، توسّعت الإجراءات الأمريكية ضد المحكمة، حيث فرضت إدارة ترامب في 2020 عقوبات على المدعية العامة ومسؤولين آخرين، وتم رفعها لاحقًا في عهد الرئيس السابق جو بايدن عام 2021، لكن القرار الأخير يشير إلى عودة النهج العقابي بوسائل مختلفة.

وتؤكد المنظمات الحقوقية أن هذه السياسة تكرّس ازدواجية المعايير في تعامل الولايات المتحدة مع العدالة الدولية، إذ تدعم التحقيقات المتعلقة بخصومها السياسيين بينما تعرقل تلك التي تخصّ حلفاءها.

دعوات لإلغاء العقوبات

المنظمات الموقعة على البيان المشترك طالبت الإدارة الأمريكية بإلغاء العقوبات فورًا، محذّرة من أن استمرارها سيؤدي إلى تآكل المساءلة عن أخطر الجرائم الدولية ودعت إلى حماية المنظمات الحقوقية الفلسطينية وضمان حقها في العمل بحرية وفق القانون الدولي، مؤكدة أن العدالة ليست عملاً عدائيًا، بل التزام جماعي تجاه الإنسانية.

ويرى مراقبون أن الاستجابة لهذه الدعوات تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الولايات المتحدة على التوفيق بين مصالحها السياسية ومبادئها المعلنة في دعم حقوق الإنسان وسيادة القانون، في وقت تتزايد فيه المطالب العالمية بإنهاء الإفلات من العقاب في غزة وسائر مناطق النزاع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية